غودار ولا-إدارة الممثّلين بقلم ألان برغالا، تعريب مجد مستورة
(الجزء الأول)

 نزولا عند رغبتنا في المساهمة في موقعنا كتابة أو تعريبا اقترح علينا مجد مستورة* ترجمة مقال للأستاذ والمنظر والناقد السينمائي الفرنسي ألان برغالا نشر سنة 2006 في عدد35 من مجلة ” دراسات مسرحية “ المنشورة بدار لارماتان

Alain Bergala, « La non-direction d’acteur selon Godard », Etudes théâtrales 2006/1/N°35

وهذا الجزء الأول

يشترك غودار مع روسيليني في رفض الأداء لكي لا نقول الرّهبة منه. إنّ أهمّ فكرة ثابتة في السّينما الحديثة فيما يتعلّق بالتّمثيل هي البحث عن الاستراتيجيات اللاّزمة لمنع الممثّل من الأداء أي ألاّ يكونَ إلاّ نفسَهُ حينما يمثّل، ألاّ يسيطر على الشّخصية ولا يتقمّصها. إنّ ما ينطوي عليه الأداء من محاكاة ومن هستيريا ومن رغبة في المسك بزمام الأمور هو ما ولّد تلك الرّهبة عند المخرجين الحديثين ابتداء بروسيليني وبريسون. بالنّسبة إلى أنتونيوني، « ليس على ممثّل السّينما أن يفهمَ، عليه أن يكون. يمكن لقائل أن يقول : لكيْ يكونَ الممثّل، عليه أن يفهم. ذلك خاطئ. […] لأنّ تخميناته حول الشّخصية، والّتي حسب الرّأي المتداول، جديرة بأن توصله إلى توصيف دقيق لهذه الشّخصية، تنتهي بعرقلة عمله  ونزع تلقائيّته عنه. على ممثّل السّينما أن يذهب لموقع التّصوير في حالة من العذرية. بقدر ما يكون مجهوده حدسيّا، بقدر ما تكون النّتيجة أكثر تلقائيّة » (1)

« التّشوه : الأداء »

يقول غودار: « يحلو للممثّل أن يعتقد أنّه مسيطر على الشّخصية الّتي يعمل عليها، حتّى لو لم يكن ذلك صحيحا : من النّادر أن يشعر ممثّل بذلك معي. » ذلك أنّ غودار تعلّم من بريسون وروسيليني الاستراتيجيات الأكثر نجاعة لتجنّب سقوط الممثّل في الأداء، و قد استعملها كلّها. تتمثّل الأولى في حجب السّيناريو عن الممثّلين، حتّى وإن كان هذا الأخير موجودا، وقد صار غودار يعمد إلى السّيناريوهات أكثر فأكثر. أمّا الثّانية فتتمثّل في رفض التّعاطي مع أيّ طلب للممثّل يتعلّق بالشّخصية الّتي عليه تأديتها. كان غودار يردّ دائما على الممثّلين الّذين يطلبون منه توضيحات أو تحاليل عن الشّخصية الّتي هم بصدد تمثيلها في الفيلم : « حينما ينتهي الفيلم سوف نعرف من هي الشّخصية ». وتلك ليست مزحة بطبيعة الحال. لا يتعامل غودار مع فعل الإخراج كتطبيق لبرنامج مسبق التّخطيط، بشخصيّات واضحة المعالم وسيناريو نهائيّ، فيلم ذهني لا ينتظر إلاّ ترجمته صورًا وأصواتا. كما كان الأمر بالنّسبة إلى بريسون (الّذي كان شعاره : « إيّاك وأن تصير مُجرّدَ منفّذٍ لمشاريعك ! »)، فإنّ عمليّة تصوير الفيلم بالنّسبة إلى غودار ليست تطبيقا لبرنامج مسبق التّخطيط، بل تطويعا للفيلم مع واقع التّصوير وواقع الممثّلين، فالشّخصية هي تلك الخلطة العجيبة بين واقع الممثّل، شخصه، حالاته النّفسية والفكرة الأوّلية لغودار عن الشّخصية في اللّحظة الّتي شرع فيها في إنجاز الفيلم والّتي تتشكّل خلال التّصوير ثمّ خلال المونتاج. لا وجود لشخصيّة نهائيّة وكاملة التّشكل قبل تجربة التّصوير، وبالتّالي من المستحيل بالنّسبة إليه أن يصف للممثّل هذه الشّخصية ونفسيّتها بل هو يعمل على صنعها معه عوض أن يخضع ” لذلك الخوف البائس من تغيير جلدته وأن يتغلّف بقشرة خارجيّة لشبه شخصيّة لا تقول سوى أنا“(2)، وهو في ذلك وفيّ لتصوّره للإبداع السّينمائي. لا يمكن للكائن الفيلميّ إلاّ أن يكون صنيعة ثنائيّة (بين المخرج وواقع الممثّل)، وعلى الممثّل أن يساهم في ذلك بإتّباعِ طريق لا يختبئ فيها وراء أداء شخصيّة موجودة سلفا كما الحال في المسرح : ” كما يستحيل الوقوف وراء الكاميرا فقط فيستحيل الوقوف أمامها فقط “(3) وفي سياق حديثه عن إحدى ممثّلاته المستجدّات، ورغم العلاقة الوطيدة والخلاّقة الّتي ربطتهما، ومع أن الأمور سارت كما يجب وأنه توفق في أن تتجنب الأداء المشوه، تذمّر من كونها استسلمت لذلك ”التّشوه : الأداء“ في إحدى مراحل العمل.

روسيليني الّذي واجه « تشوّه الأداء » قبل غودار، استنبط بدوره استراتيجيّة تتمثّل في مباغتة الممثّل : « أنا أسلّم الحوار في آخر لحظة لأنني لا أريد أن يعتاده الممثل أو الممثلة. إن ما يمكّنني من الإبقاء على الممثّل تحت السّيطرة هو التّقليل من التّمارين والإسراع في التّصوير دون الإكثار من اللّقطات. يجب التّعويل على نَضَارة الممثّلين. »(4) مارس غودار بدوره تكتيك اللّحظة الأخيرة، كرفيق دربه ريفات، و الّذي يتمثّل بالنّسبة إليه، في كتابة الحوار خلال التّصوير وفي إعطاء النّص للممثّلين قبل دقائق من تصوير اللّقطة. و في حالات أخرى، حينما يكون النّص جاهزا من قبل، يسلّمه للمثّلين صبيحة التّصوير لكي لا يتوفّر لهم الكثير من الوقت للتّحضير ولا لتثبيت صورة جامدة عنه. خلال السّتينات، اتبع غودار أحيانا طريقة السّماعة الّتي تتمثّل في الهمس في أذن الممثّل من خلال سمّاعة مخفيّة تحت شعره، وإملاء ما عليه أن يقول. ويرتجل غودار الإجابة على ضوء ما يقول الممثّل الآخر. هذه حالة قصوى، لكنّ غودار كان يفضّل عموما العدّة (le dispositif) على الإخراج. فلم يكن مولعا بالإخراج بالمعنى الكلاسيكيّ للكلمة، ذلك الّذي يفضي إلى إدارة « توجيهيّة » للممثّلين مع توجيهات متعلّقة بالأماكن والحركات ونبرات الصّوت و الإيقاع، بل يفضّل العمل إنطلاقا من منظومة هي بمثابة توضيب للفضاء أكثر منها إخراج بأتمّ معنى الكلمة، تترك هامشا أكبر للمفاجأة والصّدفة والتّفاعل العفوي وتراهن أكثر على حرّية الممثّل وعلى ردود فعله التّلقائيّة وعلى يقظته، وهذه هي العوامل الّتي جعل منها غودار مادّة أوّلية لأفلامه. ما يحدث في المسرح خلال التّمارين يمثّل بالنّسبة إلى غودار المادّة الأوّلية للفيلم، خلال تصوير كلّ لقطة.

إنّ القاسم المشترك بين سينمائيي الحداثة هو القناعة أنّه لا يمكن الاشتغال في السّينما إلاّ انطلاقا من واقع الممثّل. هذه القناعة ولّدت احترازا عند مخرجي الواقعيّة الجديدة من الممثّلين المحترفين المتعوّدين على حجب حقيقتهم وراء ظاهر الشّخصية، كما يقول بريسون. اعتبر العديد من السّينمائيين الأداءَ ضربا من الابتذال الّذي يجب القطع معه بعد الحرب العالميّة الثّانية و بدؤوا في التّعامل مع ممثّلين غير محترفين سعيًا إلى ترسيخ ميثاق أخلاقيّ جديد لصناعة الصّورة السّينمائية. كان روسيليني أوّل مؤسّسي هذا الميثاق الأخلاقي : « أختارُ شخصًا تتوفّر فيه الصّفات الجسدية للدّور، و بما أنّه ليس ممثّلا بل هاويا، أدرسه بعمق، أتملّكه، أعيد تركيبه وأستعمل قدراته العضليّة وحركاته اللاّإرادية المتكرّرة لأصنع منه شخصيّة. يعني ذلك أنّه من الوارد أنّ الشّخصية الّتي تخيّلتها سلفًا قد تغيّرت خلال تلك الرّحلة، ولكنّها وصلت في النّهاية إلى الوجهة ذاتها « (5)

ضخّ الدّم

تمثّل عمليّة تملّك الممثل وإعادة تركيبه شرطًا لنجاح الفيلم بالنّسبة إلى غودار، وهي تقتضي حسن اختيار الشّخص الّذي سيدخل إلى الفيلم بكل ما يحمله في كيانه. « أحتاج في أفلامي لأشخاص قادرين على إظهار حقيقتهم على شرط أن يبقوا في مجال فيلمي، و أنا أطلب منهم فعلا أن تتأقلم حقيقتهم مع فيلمي وإلاّ إنهار هذا الأخير[…] أسعى أن يكون الممثّلون « حقيقيّين » في الوضعيّات الّتي يجدون أنفسهم فيها. لا خيال لي، أحاول تصويرهم كما هم، على الأقلّ مقابل المال الّذي نعطيهم إيّاه. إن لم تجر الأمور كما ينبغي، أغيّر بعض التّفاصيل، قد تكون نبرةَ صوتٍ مثلا… المهمّ أن نصل إلى نتيجة قريبة من حقيقتهم. »(6) بالتّالي فإنّ الممثّلين كأشخاص يمثّلون المادّة الأوّلية الحيّة للفيلم، بعيدًا عمّا يسمّيه هيتشكوك « الماشية »، وتفاعل الخرج مع حقيقتهم وسلوكهم هو الّذي يحدّد نجاح الفيلم من عدمه.

يمكن أن نتخيّل حجم الضّغط ونوعيّة العطاء الّتي يتطلّبهما هذا التّمشي بالنّسبة إلى الممثّل فهو مطالب بإقحام ذاته برمّتها في العمليّة السّينمائية، عكس الأداء العاديّ الّذي يحتمي فيه الممثّل خلف قناع الشّخصية. و لعلّ ذلك ما جعل عددا من ممثّلي السّينما الحديثة، و خاصّة سينما غودار، يصابون ب »الإنهاك » كممثّلين في وقت أنّ ممثّلي الأداء، الأكثر كلاسيكيّة، عرفوا مسيرة أطول وأكثر هدوءًا. لا مجال للمقارنة بين ما يعطيه هذا وذاك للمخرج. بريسون كان يؤمن بأنّ ذلك العطاء لا يمكن ولا يجب أن يحدث إلاّ مرّة واحدة وأنّ كلّ من مثّل في أحد أفلامه وأعطاه ما ينتظر منه كموديل صار مستهلكا بالنّسبة للسّينما. و رغم أنّ آنا كارينا لم تلق مصير أغلب ممثّلات بروسون، إلاّ أنّها دفعت غاليا ثمن أعوام من « ضخّ الدّم » بين شخصها وأفلام غودار، و ستدفع العديد من الممثّلات الأخريات ثمن الانتقاء من قبل « المعلّم » و ثمن حسن نيّتهنّ أمام رغبته في العمل مع كلّ منهنّ. و لقد اعترف غودار أكثر من مرّة أنّ أفلامه مدينة لعمليّة ضخّ الدّم هذه بين مشروعه من جهة وشخص آنا كارينا من جهة أخرى خاصّة في فيلم « أن يعيش المرء حياته »(7)، إلاّ أنّ العديد من الممثّلات الأخريات لن تجدن الحظّ نفسه خاصّة مع المقالات الّتي تنتقد بحدّة عملهنّ وعلاقتهنّ بالفيلم. وقد كان ذلك نصيب أغلب التّقنيين كذلك.

لا يمكن أن ننكر رغم كلّ ما سبق، أنّ في هذا التّصور لعلاقة المخرج بالممثّل قدرا أكبر من المجازفة والتّواضع عند المؤلف مقارنة بالمخرج الكلاسيكيّ الّذي يطلب من الممثّل أن ينسى نفسه أمام الشّخصية وأن ينصاع لسلطة الإخراج. إنّ صناعة لقطة أو فيلم بالنّسبة إلى غودار يتمثّل في الدّخول مع الممثّل في عمليّة تنسيق ثنائي يحتاج فيها كلّ منهما إلى الآخر، يجلب فيها الممثّل ذاته  وطاقته ولا يسعيان خلالها أن يقتربا من « نتيجة مثالية » على مستوى التّمثيل بقدر ما يعملان بطريقةٍ يضعان فيها كلّ شيء محلّ تساؤل بين اللّقطة والأخرى.

يقول غودار: « إنّ تموقعي تجاههم هو إلى حدّ ما موقع المُحاوِرِ أمام الضّيف في مقابلة صحفية. أجري وراء شخص و أطلب منه شيئا ما، وفي نفس الوقت أنا هو منظّم هذا السّباق. إن خارت قواه وأصيب بالتّعب، أعرف أنّه لن يقول نفس الشّيء إلاّ في ظروف مختلفة. »(8) الإخراج بهذا المعنى ليس الإدارة بمعناها الدّكتاتوري بل هو وضع لأسس العمل ثمّ مراقبة مجريات الأمور والتّدخل حينما يقتضي الأمر. و يمكن حتّى الالتجاء إلى الكذب إن استوجب الأمر كما يقول أنتونيوني :”تقنيّتي المفضّلة تتمثّل في السّعي إلى بعض النتائج عبر عمل سرّي. الفكرة هي أن أحرّك في الممثّل قدرات موجودة فيه وهو غير واع بها، ألاّ أخاطب ذكاءه بل فطرته، و ألاّ أعطي تبريرات بل إرشادات. يمكن أن نصل حتّى للغشّ مع الممثّل : أن أطلب منه شيئا لأحصل على شيئ آخر. على المخرج أن يعرف كيف يطلب و كيف يفرّق بين ما يصلح وما لا فائدة منه فيما يقدّمه الممثّل.“ (9) لم يمنع غودار نفسه يوما، في عمله السّري، أن ينتهج الخداع في طلب شيء ما من الممثّل لكي يتحصّل على شيء آخر مفيد للفيلم، حسب تقديره.  ومن وجهة النّظر هذه، ينتمي غودار دون شكّ إلى مخرجي القسوة، مثل روسيليني، بيالا وكياروستامي أحيانا، فهم يؤمنون بأنّ كلّ شيء مباح بما في ذلك الكذب والقسوة لكي تلتقط الكاميرا بريق قاطع من الحقيقة بما فيها من كذب وقسوة. وفي خضمّ هذا المنطق الباحث عن الحقيقة، لا يوجد إلاّ معيار أخلاقي واحد وهو نجاح الفيلم كعمل قادر على فسح مجال الرّؤية والإحساس والتّفكير. لا يجب الخلط بين هذه القسوة المنخرطة في العمليّة الإبداعية من جهة، والقسوة الاجتماعية التافهة من جهة أخرى، والّتي تتمثّل في حديث غودار عن ممثّليه بالسّوء بعد خروج الأفلام في القاعات. أمّا الثّانية، فلا جدوى منها غير التّفريغ العاطفي، و أمّا الأولى فهي تندرج ضمن سؤال محوري حول علاقة المخرج بممثّليه : هل يحقّ له أن ينتزع من الموديل شيئًا ما لا يعي هذا الأخير أنّه بصدد إعطائه له؟ هذا الشّي، الّذي يستحيل إيجاده في المسرح لأنّ الممثّل ينتهي إلى السّيطرة التّامة على عمله بتتالي العروض، هو الّذي لطالما بحث عنه بريسون عند موديلاته: « ليس المهمّ ما يُظْهِرونَ لي بل ما يخفون عنّي، و خاصّة ما لا يعرفون أنّه موجود فيهم. »(10) و رغم أنّ غودار كثير التّذمر من نقص التزام الممثّلين ومن استحالة إنشاء علاقة مهنيّة مبنيّة على الأخذ والعطاء، فهو يشاطر بريسون نفس التّصور للممثّل : الممثّل المثالي هو ذلك القادر على إعطاء ما يجهل أنّه يملك والّذي يلبّي الانتظارات اللاّواعية للمخرج دون أن يعرف ذلك. يبلغ هنا اختلال التّوازن في العلاقة حدّا فظيعا، و هو ما يعترف به بريسون بكلّ صراحة : « لا تأخذ إلاّ ما يناسبك ممّا انفلت من الموديل »(11) أي بكلمات أخرى : لا أريد ما تعطيني إيّاه، لا أريد إلاّ ما يناسبني وما لا تدرك أنّك تعطيه. من أجمل مشاهد أفلام غودار، والأكثر بوحا بعلاقته بالممثّلات من وجهة النّظر هذه، هو ذلك المشهد من فيلم « أحيّيك يا مريم » (Je vous salue Marie)،(12) الّذي يزيح فيه المسكين جوزيف، الّذي لم يكن إلى حدّ تلك اللّحظة إلاّ وسيطا روائيّا بين الإلاه غودار و مريم روسال، ثمّ يختلي بهذه الأخيرة في غرفة العذراء الصّغيرة ويطلب منها شيئا لا تعرف أنّها تملكه ويرفض أن يصيغه في طلب واضح، ملغيا بذلك كلّ الحدود بين الخياليّ والواقعيّ والرّمزي في العلاقة الّتي أسّسها معها داخل تلك الغرفة. على مريم روسال أن تعيد إكتشاف « القوس الهستيري » لتلبّي هذا « اللاّ-طلب »، و هي مهمّة أكثر صعوبة واستعجالا من أيّ طلب آخر. ومن الواضح من المشاهد المتولّدة عن هذه المواجهة أنّ ما حدث بين المخرج وممثّلته هو أبعد ما يكون عن أداء ممثّل في السّينما وإنّما حدث على مستوى علاقة شخصيّة وطيدة، تزيدها عمقا الأدوار الرّمزية لكلّ منهما. لا يمكن لشيء من هذا القبيل أن يحدث إلاّ مرّة واحدة علاوة على أنّه لا يمكن أن يحدث في المسرح نظرا لطبيعة هذا الأخير بما هو فنّ التّمرين قبل جاهزية العرض وفنّ الإعادة حينما تبدأ العروض.

اختيار الممثّل

إنّ لحظة اختيار الممثّل بالنّسبة إلى كلّ المخرجين الّذين يرفضون الأداء والّذين يعوّلون على كيانه، هي لحظة فارقة تمثّل، إلى حدّ ما، قرارا لا رجعة فيه. كان روسيليني يختار أحيانا ممثّليه من النّظرة الأولى، في أيّ مكان، في الشّارع، على الشّاطئ أو في منزل أحد أصدقائه، مع قناعة بأنّه سوف يكون قادرا على جعلهم يمثّلون على طريقته، وأنّه لا جدوى من اختبارهم للتّأكد من صحّة خياره. عبّر غودار عن نفس الفكرة تقريبا خلال السّتينات : « مالجدوى من القيام بتجارب أداء؟ تجربة الأداء تعني الحديث معه. إن لم تعرف حقيقة الشّخص الّذي تتحدّث إليه بعد ذلك، فلن تعرفها أبدا. » من المؤكّد أنّ في يومنا هذا، يتعامل غودار بحذر أكبر مع إختيار الممثّل ويوليه أكثر اهتماما ووقتا وإمكانيّات لما يمكن أن يشكّل هذا الإختيار من خطر على الفيلم. يبدأ الكاستينغ مع مساعديه الّذين ينتقون وجوها كثيرة يختار من بينها غودار مجموعة يقابلها شخصيّا. في فيلم « مديح الحبّ »(13)، استقبلهم غودار في مكتبه لتجربة أداء في شكل حوار دون أن يخبرهم أنّ تلك المقابلة مصوّرة بكاميرا 35 مم وأنّه سيتمّ استعمال أجزاءٍ منها في الفيلم نفسه. يمكن أن نقول إنّ كلّ فيلم من أفلام غودار هو نفسه كاستينغ الفيلم في طور الإنجاز. في حلقتين من « ستّة ضارب اثنين »(14)، لم يكن الفيلم إلاّ مقابلة بين غودار (كاستينغ مخادع) مع عاطلين عن العمل (عاملة تنظيف ولحّام) للعمل في شركة التّلفزيون المحلّي الّتي كان يمتلكها.

« عظمة وانحطاط مشروع تجاري صغير في ميدان السّينما »(15)، هو من أقلّ أفلام غودار شهرة وقد تمّ إخراجه لسلسلة تلفزيونية اسمها « السّلسلة السّوداء »، و هو عبارة عن تأمّل جميل في المفارقة المتعلّقة بمسألة الممثّل. اختار غودار منذ البداية أن يعتمد على مجموعة من المعطّلين عن العمل لا يعرفهم يقطنون نفس الحيّ الّذي يتواجد به مكتبه الباريسيّ. في مرحلة أولى، صوّرهم كأشخاص يعرّفون بأنفسهم ويعطون أرقام هواتفهم وأرقام الضّمان الاجتماعي أمام كاتبة تسجّل ترشّحاتهم. يبالغ كلّ منهم في تقمّص الصّورة الاجتماعية والنّفسية الّتي يعتقد أنّها مغرية لهذا المشغّل. فيما بعد، يُنَظِّمُ غودار، عن طريق جون بيار ليو، إستعراضا يمرّ فيه كلّ واحد من هؤلاء « اللاّ-ممثّلين » أمام الكاميرا لكي يقوم بإلقاء إحدى الجمل التّقليدية للأفلام البوليسيّة، وذلك دون أيّ توجيهات من المخرج : سرعان ما يظهر التّشوه عندهم –أي الرّغبة في الأداء- حتّى عند « اللاّ-ممثّلين »، وتظهر معه الهستيريا والخطابة والنّبرات المبالغ فيها. في الاستعراض الثّاني لنفس المعطّلين- الممثّلين : هذه المرّة، يطلب غودار من كلّ واحد منهم تباعًا أن يقول مقطعا من جملة جميلة وطويلة جدّا لفولكنر، وهي جملة كان غودار مسكونًا بها. وعلى عكس الاستعراض الأوّل، وجد المعطّلون-الممثّلون أنفسهم بصدد إلقاء مقاطع لا معنى لكلّ منها على حدة، ووجدوا أنفسهم بالتّالي أمام استحالة الأداء. وبما أنّ غودار يطلب منهم المرور أمام الكاميرا مرارا  وتكرارا، فقد بدأ التّعب بالظّهور عليهم شيئا فشيئا ليُنْتِجَ نوعا من الإفراغ البريسوني الّذي يقضي تدريجيّا على كلّ رغبة في التّعبير ويُنقّي الأصوات من الشّوائب. ما تفضي إليه هاتان التّقنيتان، التّقسيم والتّكرار الميكانيكيّ، هو إلقاء لهذه الجملة بعيدا عن تشوّه الأداء والّذي نجح اللاّ-ممثّلون في إيصالها لنا دون شوائب. سيقول غودار لاحقا : « التّمثيل هو عدوّ النّص ». من الشّاهدين على هذه اللّعبة، الّتي يقحم فيها غودار هؤلاء اللاّ-ممثّلين في دوّامة الإعادة اللاّمتناهية، هناك ممثّلة شابّة تستمع إلى إلقاء هذا « الممثّل الجماعي » لهذه المقاطع وتفهم من هؤلاء الهواة كيف عليها أن تقوم بإلقاء الجملة دون أن تسقط في الأداء. سوف يقع الاختيار فيما بعد على هذه الممثّلة لإلقاء تلك الجملة، وستستثمر الاجتهاد اللاّواعي لهؤلاء اللاّ-ممثّلين. وفي هذا صورة مجازية بالغة الجمال عن علاقة غودار بالنّص وعن التّواضع الّذي يبحث عنه عند ممثّليه.

في مستوى آخر، يبوح هذا الفيلم بجانب سرّي من علاقة غودار بممثّلاته، فيبدو أنّه وقع الإختيار على الممثّلة الشّابة ماري فاليرا للشّبه بينها وبين ديتا بارلو، و فاليرا هي المكلّفة بتجميع مقاطع الجملة مع ضرورة الإبقاء على الرّوح الّتي نفخها فيها اللاّ-ممثّلون دون تحوير. يقع التّركيز على هذا الشّبه حينما يحدّثها عنه جان بيار ليو في دور المساعد غاسبار، و خاصّة حينما تجد فاليرا نفسها قبالة شاشة تلفزيون تعرض مقتطفا من فيلم « الوهم الأكبر »(16) و حيث تظهر ديتا بارلو، ممثّلة رونوار وفيڨو في لقطة مقرّبة. ولطالما كان الاستحضار عاملا محدّدا في اختيار غودار لممثّلاته، ذلك أنّ تشابه ممثّلة ما مع إحدى الممثّلات المفضّلات لغودار، يزيد في حظوظها للظّفر بإعجابه. حتّى آنا كارينا الّتي تُعتَبَرُ أوّل ممثّلة « اخترعها » غودار، يمكن اعتبار ملامح وجهها وسمات جسدها تكثيفا لممثّلات من السّينما الصّامتة (ليليان جيش) وسينما الخمسينات (جينفير جونز، شيرلي ماكلاين). إنّ حظوظ ممثّلة ما في إغراء غودار سينمائيّا تزداد كلّما كان مظهرها مزيجا بين نفسها وبين أطيافِ كائنات سينمائيّة موجودة في لاوعي المخرج. هذا النّزوع للاستحضار يؤثّر حتّى على ماضيه هو كمخرج : من المدهش كيف أنّ بعض مشاهد مريم روسال في « أحيّيك يا مريم » تحيل إلى صورة ذهنية لآنا كارينا عبر الهيئة والتّمثيل ومحور التّصوير والإضاءة. و كذلك الأمر حتّى بالنّسبة إلى آخر أفلامه لحدّ الآن، « موسيقانا » (17)، حيث أنّ وجه الفتاة الّتي ستنتهي بالذّهاب للجنّة على ضفاف البحيرة بعد انتحارها السّياسي، يذكّرنا بوجه سيلفانا مانغانو  وبعض ممثّلات الأفلام السّابقة لغودار. و قد يكون من السّهل، إن صنعنا مزيجا من وجوه أهمّ الممثّلات اللاّتي تركن أثرًا في غودار، أن نتوصّل لرسم تقريبيّ للمثال الأفلاطوني النّسائي الّذي يسكنه. إنّ الأكيد أنّ غودار يحتاج إلى كيان حاضر غائب يتمثّل في صورة ذهنية تساعده على تحمّل البذاءة الأنطولوجية للإبداع السّينمائي : كلّ مخرج محكوم بالشّروع في التّصوير بحضور الموديل، مع كائن حيّ كمادّة أوّلية للوحته، عكس الرّسام الّذي يستطيع أن يتخلّى عن الموديل قبل اللّحظة الإبداعية الحاسمة، ليصبّ تركيزه على الكائن الّذي ابتدعه على اللّوحة، مبتعدًا بصفة وقتيّة عن الواقع كما الحال عند ماتيس أو فرانسيس باكون.

النّجوم

إن كان غودار قريبا أحيانا من بريسون في تصوّره للعلاقة مع الممثّل خلال العملية الإبداعيّة، فهو لا يشاطره ذلك الرُّهاب من النّجوم والمَسْرَحَة، بل هو كموريس بيالا، الوريث المباشر لرونوار فيما يتعلّق بمسألة الممثّل، لطالما كان معجبا بالممثّلين « الكبار » و النّجوم ويمكن أن نتبيّن في كتابه Histoire(s) du cinéma (18) الدّور الهامّ الّذي لعبه النّجوم في تكوين مخياله السّينمائي.

تعلّم غودار من رونوارضرورة التنوع ، وأنّه كلّما كان الممثّلون مختلفين، كلّما صار الفيلم أكثر حيويّة. كان لغودار شغف كبير بالممثّلين بمختلف أنواعهم، كان متحرّرا بذلك من كلّ دغمائيّة، مثل رونوار، و محبّا لكلّ الممثّلين على طريقته : النّجوم، اللاّ-ممثّلين، الكبار و الصّغار و حتّى ممثّلي الصّف الثّالث. وكان يستمتع بجعلهم يمثّلون في نفس الفيلم مقتنعا أنّ اللّقاء بين لا-ممثّل أو ممثّل مبتدئ من جهة و »ممثّل كبير » من جهة أخرى، لا يمكن إلاّ أن يعود بالنّفع على هذا الأخير، كما الأمر عند روسيليني وكاسافيتس، وأنّه لا وجود للجمال دون القبح، ولا للبديع دون الوضيع ولا للتّراجيديا دون الكوميديا، وأنّ الأهمية القصوى لفيلم « قاعدة اللّعبة »(19) لم تكن ممكنة لولا ذلك الخليط الهجين لباقة من الممثّلين الّتي تحمل في تنوّعها صورة عن تنوّع الإنسانية بأسرها.

لم يتخلّ غودار عن كبرياء المبدع الواعي بعبقريّته ليلعبَ دور الطّالب اللّحوح إلاّ أمام بعض الممثّلين الكبار والنّجوم الّذين رغب في التّعامل معهم على غرار روبار دي نيرو ودايان كيتن ووودي آلان وغيرهم بما يتضمّنه ذلك من إهانة تمسّ بعض الشّيء من الهالة الّتي تحيط به والّتي تجعله فوق الاعتبارات الطّبيعية للعرض والطّلب.

خلال الثّمانينات، رغب غودار في التّعامل مع نجوم فرنسيّين مثل آلان دولون وجيرار دوبارديو في فترة كانت فيها مسيرة كلّ منهما في حالة ركود، كما صرّح بذلك أكثر من مرّة، وحيث كانت قيمتهما في السّوق منخفضة، وهي وضعيّة تسمح بتطويعهما وتخوّل لهما أن يضعا المسلّمات الّتي اكتسباها حول مهنة الممثّل محلّ شكّ وأن يشتغلا مع غودار بروح جديدة يتخلّصان فيها ممّا علق بهما من شوائب. ولقد كانت التّجربة ناجحة مع آلان دولون في (20) Nouvelle Vague حيث دخل التّجربة مؤمنا بعبقريّة غودار ومستعدّا للتّخلي عن موقع السّيطرة على الشّخصية وعلى الممثّل دولون، فيما كانت التّجربة أقلّ توفيقًا في فيلم Hélas pour moi (21) مع جيرار دوبارديو الّذي كان أقلّ استعدادا للرّجوع إلى نوع من التّواضع في علاقته بقدراته، علاوة على أنّه لم يحظَ بنفس الإعجاب الّذي كان يحظى به دولون من قبل غودار، فالمشاعر متبادلة في السّينما أيضا. في المقابل، وُفِّقَ بيالا أكثر من غودار في تخليص دوبارديو من عاداته ومواطن كسله حينما جعله يؤدّي مشهدا مع طفل لا يعدو أن يكون إلاّ ابنه في فيلم Le Garçu سنة 1995. ثمّ تقاطع طريق غودار مع نجم آخر في فيلم Détective(22) وهو جوني هاليداي الّذي كانت بينهما علاقة احترام متبادل. الأكيد أنّ هاليداي دخل التّجربة بنوع من الحرّية الّتي لا تهدّد شهرته العالميّة بحكم عدم انتمائه لميدان السّينما، ولقد كان بدوره أقلّ خطورة بالنّسبة لغودار للسّبب ذاته رغم أنّ هذا الأخير لم يكن صاحب فكرة الاشتغال مع هاليداي، بل هو المنتج الّذي اقترح ذلك في بادئ الأمر لغايات ربحية بحتة، ولم يبد غودار اعتراضا على هذا الاقتراح المفاجئ، لأنّه مؤمن بقدرة المفاجآت على تحقيق الرّغبات. ولنا في فيلم (23)Prénom Carmen مثال عن علاقة المخرج بالمفاجآت، فهو بدأ العمل على الفيلم مع النّجمة إيزابيل آدجاني التي كان يكنّ لها إعجابا كبيرا (و هي النّجمة الّتي تُعتَبَرُ الممثّلة الفرنسية الوحيدة الّتي تؤمن بإمكانيّة تواصل فكرة النّجومية في السّينما الفرنسية المعاصرة) وبعد أيّام من انطلاق التّصوير، اتّفقا على الطّلاق بالتّراضي بعد أن تأكّدا من عدم قدرتهما على العمل معا. لم ينتظر غودار كثيرا قبل أن يستأنف التّصوير مع ممثّلة لم تكن مشهورة حينها : ماروشكا ديتمار، وهي بعيدة كلّ البعد عن أدجاني على مستوى المظهر والطّبع. وجد غودار نفسه قبالة ممثّلة ذات أنوثة طاغية، وهي وضعيّة جديدة بالنّسبة إلى مخرج لم يتعامل لحدّ تلك اللّحظة إلاّ مع ممثّلات متحفّظات دون جاذبيّة جنسية بارزة، شأنه في ذلك شأن هيتشكوك وبريسون. فلم يشبه هذا الفيلم أيا من أفلامه الأخرى من حيث تصويره لجسد المرأة : من الواضح أن غودار فوجئ بهذا التغيير في الموديل بل كان مصدر الهام بالنسبة إليه اذ صور مع ماروشكا ديتمير أكثر لقطات ” ايباحية ساخنة “ وضوحا في مجمل أعماله وأقلها “بروتستانتية”

لم يعد غودار يخشى مَسْرَحَة الكلام في السّينما، عكس روسيليني وبريسون وبيالا، والّتي كانت سببا في إعجابه بآلان كوني الّذي ألقى بعض نصوص Histoire(s) du cinéma بطريقة لم يعد يجرؤ عليها أحد في يومنا هذا بما في ذلك في المسرح، وهو يسعى جاهدا منذ أكثر من خمسة عشر سنة إلى تجنّب الطّبيعية الجديدة الطّاغية على حوارات السّينما الفرنسية، مفضّلا الإلقاء (آلان دولون في Nouvelle vague) وكلّ التّشويهات الّتي يدخلها غودار على صوته هو (كإبطاء الصّوت و تفكيكه و جعله صوتا حلقيّا ) وعلى صوت دوبارديو في Hélas pour moi. هناك نوع من الإلقاء شبيه بإلقاء آندري مالرو بدأ يعود شيئا فشيئا في سينما غودار، في تناقض تام مع الصوت المجرد (la voix blanche) في أفلام بريسون، كأنه طريقة أخرى للتحرر من الواقعية المزيفة ولتمكين المشاهد من الاستماع من جديد للنص الذي طالما انتقده غودار مقارنة بالصورة فأصبحت سينما غودار مع مرور الزمن وتعاقب الأفلام في خدمة النص إلى أن انتهينا إلى فيلم مثل Notre musique . حينما اختار غودار ممثّلا بقيمة آلان دولون وماضيه لكي يمثّل في Nouvelle Vague، فهو لم ينتظر منه أداءً « من الحاضر »، بل أراد منه أن يجلب معه كلّ السّينما الّتي عبرها والّذي يمثّل هو نفسه ذاكرتها الحيّة، ولم يطلب منه أن يكون أداؤه « من الحاضر » بل طلب منه إلقاء نصوص جميلة متقنة الكتابة ليُظْهِرَ كلّ التّاريخ السّينمائي الّذي ينطوي عليه الممثّل، وقبل دولون أن يدخل اللّعبة بتواضع وإحساس كبيرين بحكم ثقته في غودار.

مجد مستورة ممثل مسرحي وسينمائي، وكاتب مسرحي*

https://www.cairn.info/revue-etudes-theatrales-2006-1-page-68.htm?contenu=auteurs

 


(1) Michelangelo Antonioni, Écrits, Paris, Images Modernes, 2004
.
(2) Godard par Godard, tomes 1 et 2, édition établie par Alain Bergala, Paris, Cahiers du Cinéma, 1998.
(3) نفس المصدر
(4) Roberto Rossellini, Le Cinéma révélé, Paris, Cahiers du Cinéma, 2006, coll. “ La petite bibliothèque »
(5) نفس المصدر
(6) Godard par Godard, op. cit.
(7) Jean-Luc Godard, Vivre sa vie, 1962, avec Anna Karina, Saddy Rebbot.
(8) Godard par Godard, op. cit.
(9) Michelangelo Antonioni, op. cit.
(10) Robert Bresson, Notes sur le cinématographe, Paris, Gallimard, 2002, coll. « Folio », n. 2705.
(11) نفس المصدر
(12) Jean-Luc Godard, Je vous salue Marie, 1983, avec Myriem Roussel, Juliette Binoche.
(13) Jean-Luc Godard, Éloge de l’amour, 1999, avec Bruno Putzulu.
(14) Jean-Luc Godard, Six fois deux, 1976, coréalisé pour la télévision avec Anne-Marie Miéville.
(15) Jean-Luc Godard, Grandeur et décadence d’un petit commerce de cinéma, 1986, téléfilm, avec Jean- Pierre Léaud, Marie Valéry.
(16) Jean Renoir, La Grande illusion, 1937.
(17) Jean-Luc Godard, Notre musique, 2003, avec Rony Kramer, Nade Dieu, Sarah Adler.
(18) Jean-Luc Godard, Histoire(s) du cinéma, 1988 et 1998.
(19) Jean Renoir, La Règle du jeu, 1939.
(20) Jean-Luc Godard, Nouvelle Vague, 1990,
 avec Alain Delon, Laurence Guerre, Laure Kipling.
(21) Jean-Luc Godard, Hélas pour moi,1991, avec Gérard Depardieu, Laurence Masliah, Roland Blanche.
(22) Jean-Luc Godard, Détective, 1984, avec Nathalie Baye, Johnny Halliday, Claude Brasseur, Jean-Pierre Léaud.
(23) Jean-Luc Godard, Prénom Carmen, 1982, avec Marushka Detmers, Jacques Bonnaffé, Myriem Roussel.

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page