غودار ولا-إدارة الممثّلين بقلم ألان برغالا، تعريب مجد مستورة
(الجزء الثاني)

عن البغاء و احترام الممثّلات

في فيلم  24 Scénario du film Passion  قال غودار لجيرزي رادزيفيلوفيتش إنّه غيّر رأيه في ما يتعلق بمشروع فيلمه، وإنّه، خلافا لما تم الإتفاق عليه سابقا، سيوكل إليه دور المخرج لأنّ دور الممثّل قد يجرّه إلى تحمّل كل المشاقّ. ورغم القسوة التي يتعامل بها أحيانا مع الممثّلين، فإنّ غودار يكن لهم نوعا من التّعاطف بسبب هذه المشاق، وقد قال مرّة إنّ « الممثّل هو مريض نفيس و نادر »، وهو « مرض » يضجره ويحز في نفسه في الآن ذاته.

بالنّسبة إلى غودار، وشأنه في ذلك شأن كنجي ميزوغوشي، يمثّل البغاء الاستعارة الأكثر قدرة على التّعبير عن العلاقات الاجتماعية في مجملها والأمر يتعلق بدون شك بواحد من أهم المواضيع بالنسبة إليه. ولكنّها تظهر بشكل أوضح بين العلاقة البغائية من جهة وعلاقة ممثّل السّينما بالمخرج من جهة أخرى، فَهُمَا تمثّلان وضعيّتين اجتماعيّتين استثنائيّتين يستأجر فيهما شخص ما جسد شخص آخر بصفة وقتيّة، وتكون له تقريبا السّيطرة التّامة عليه. يلتزم الممثّل بالانصياع لرغبات المخرج بحكم العقد الّذي يربطه بالمنتج، وأن يتّخذ وضعيّة ما، أو أن يقوم بحركة ما أو أن يقول كلمة ما. في فيلم Vivre sa vie كان غودار واعيا بهذا التّشابه الّذي عبّر عنه بشكل صريح : « علاقتي بالممثّلة هي علاقة عاملة جنس بحريفها ». في هذا الفيلم، كما في أفلامه الأخرى الّتي تعالج بشكل مباشر موضوع البغاء، نجد أنّ المَشاهِدَ الّتي يفترض أن تكون جنسية، والّتي نكتشفها حينما يُفتَحُ صدفةً باب غرفةٍ، هي لوحات حيّة جامدة تأخذ فيها الأجساد وضعيّات ثابتة، كأنّ متعة الحرفاء الحقيقيّة ليست استهلاك الجنس بل هي متعة المخرج في أن يصوّر لوحة حيّة تتغزّل بالجسد. في أحد فصول فيلم Vivre sa vie، يصوّر غودار مجازيا قصّة كاستينغ : يدخل حريف مع « نانا » لغرفتها لممارسة الجنس ولكن ما أن وصل الغرفة حتّى طلب منها أن تحضر فتاة أخرى. تجوب « نانا » كلّ الغرف حيث نكتشف معها تلك اللّوحات الحيّة، وانتهى بها المطاف إلى صديقة متفرغة قبلت مرافقتها. يبدي الحريف اهتماما بالفتاة الجديدة، ريثما تبقى « نانا » في حالة انتظار، وحينما تأكّدت أنّه تجاهلها توجّهت له بالسّؤال: « وأنا، لما أصلح الآن؟ » وقد فهمت أنّه لم يعد هناك جدوى منها وأنّ اختيار الحريف وقع على صديقتها وحدها.
تاريخ « الكاستينغات » مليء بهذا النّوع من القصص، حيث تجد إحدى الممثّلات نفسها مقصيّة في آخر لحظة دون أن يتجرّأ المخرج أن يتحمّل بصراحة مسؤوليّة هذا التّغيير.

كما يقول دوتران لإيزابيل أوبار في بداية فيلم 25 Sauve qui peut (la vie) : « لا تتصنّعي »، فإنّ حرفاء عاملات الجنس في أفلام غودار لا يطيقون تصنّع المتعة، وغودار بدوره لا يطيق أن يتصنّع ممثّل الإحساس بانفعال ما، لأنّ التّصنع في الحالتين هو ضرب من ضروب الابتذال، ومن الأجدر انتزاع لحظة حقيقة صادقة ولو كان ذلك عن طريق القسوة أو الحيلة، أو انتهاج التّغريب البريشتي.
المشهد الأكثر تعبيرا عن علاقات السّلطة الاجتماعية، عن سلطة الإخراج وعن العلاقة بالممثّل هو مشهد السّلسلة الجنسية في Sauve qui peut (vie)، حيث يستدعي مسؤول موظّفيه في مكتبه ويصنع سلسلة جنسيّة يتعامل فيها بالتّساوي مع موظّفيه الدّائمين ومع عاملات الجنس (انزع سروالك، قف وراءها إلخ..) اللاّتي تمّ استئجارهنّ لبضع ساعات لإخراج هذا « العرض الجنسيّ ». وسيقوم المسؤول بإخراج الصّوت والصّورة تباعا قبل أن « يبدأ تصوير اللّقطة ».

إنّ « الأخلاق السّينمائيّة » لغودار تجعله يحمي ممثّلاته ممّا يمكن أن يمسّ من كرامتهنّ في مشهد البغاء هذا أو مشاهد البغاء في Vivre sa vie، وسبق و أن قلت 26 أنّه لطالما كان غودار حريصا على احترام صورة ممثّلاته وعلى احترام أجسادهنّ، حيائهنّ وحميمتهنّ رغم أنّه لم يكن يتوانى في تسليط أشكال من القسوة النّفسية على ممثّليه. لم نرَ أبدًأ نَهْدَيْ آنا كارينا في أيّ من الأفلام الّتي عملا عليها معا، حيث صان عراءها من فضول المشاهدين، في فترةٍ « تَحَرَّرَ » فيها العري في السّينما وتسابق إليه المخرجون دون ضرورة في السّيناريو.

الممثّل كجسد ناقل

حينما يتوجّه ممثّل مليء بالحماس والمخاوف بالسّؤال لغودار عمّا عليه فعله لتحضير دوره، تكون إجابة المخرج، الّتي لم تتغيّر منذ أربعين عاما، أنّ الطّريقة المثلى لكي يضع الممثّل نفسه في الظّروف الملائمة للتّمثيل هي بالضّرورة طريقة غير مباشرة، كما يجيب الحكيم أحد تلاميذه.

فالنّتيجة المرجوّة لن تأتي من وهم تحكّم مسبق للممثل في شخصيّته بل عن طريق تمارين لا يفهم الممثّل علاقتها المباشرة بالشّخصية، وهي تمارين روحانية وجسدية. أهمّ شيء بالنّسبة إلى غودار هو أن يكون الممثّل في ظروف روحانية وجسدية جيّدة عند بداية التّصوير وأن يكون الأساس موجودا بشكل لا يكون فيه للإخراج وإدارة الممثّل إضافة كبيرة : « كلّ ما أطلبه منه هو أن يشتغل بين اللّقطات أكثر من أن يشتغل داخلها، لأنّه إن اشتغل قبل اللّقطة، أعرف أنّ الأمور ستسير على ما يرام. أما العمل وسط اللّقطة ذاتها فلا جدوى منه. وذلك أصعب شيء يمكن أخذه من الممثّلين. » 27

يمكن أن نقوم بعمليّة جرد على طريقة جاك بريفير Jacques Prévert لكلّ التّمارين الّتي اقترحها غودار على ممثّليه منذ السّتينات ليكونوا مستعدّين للتّصوير: « قطع مسافة خمسة كيلومترات يوميّا على الدّراجة للذّهاب لموقع التّصوير »، أو « قراءة افتتاحية صحيفة يوميّا » أو « الغوص في رواية 28 La pesanteur et la grâce » . لتجسيد دور عاملة كاثوليكية مناضلة في فيلم 29 Passion. وعادة لا يرى الممثّلون الجدوى من هذه التّمارين الّتي تبدو عبثيّة في بداية الأمر، إلاّ بعد انتهاء الفيلم وتجاوز العلاقة الّتي لطالما كانت معقّدة مع غودار. سوء التّفاهم هذا جعل غودار يتذمّر دائما من كسل وتلكّئ الممثّلين في تتبّع نصائحه ممّا يجعل الفيلم ينزاح عن المسار الّذي كان يجدر به اتّباعه، لكنّه يعترف كذلك بمسؤوليّته في هذا الانزياح الّذي يزعجه.

إنّ عملية اختيار الممثّلين، في السّينما أكثر من المسرح، مرتبطة بتنقل في الرّغبات، وتحول في علاقات النسب لم يُفلت منها غودار ولم يكن يريد الإفلات منها رغم سلطته الظّاهرية. الممثّلون هم قبل كلّ شيء أجساد ناقلة وما انفك غودار يلعب دورا مزدوجا، نشيطا وسالبا، في تدفّق الرّغبات هذا وانخراطه بواسطة هذه الرغبات في علاقات الانتماء والبنوّة والأخوّة الرّمزية.

تأسّست الموجة الجديدة على رفض الإنتماء الطّبيعي، فامتنع أصحابها عن استعمال ممثّلين تعاملوا مع جيل الآباء، واخترعوا « موديلات » جسديّة جديدة مكونين فرقة جديدة من الممثّلين.
ولكي يتمكّنوا من تكوين خطاب جديد تماما عن جيلهم غداة الحرب العالميّة الثّانية، كان عليهم أن يبتدعوا أجسادا تكون أفضل نواقل (للإيقاع، للحركات، للتّواجد في الفضاء) بينهم وبين المشاهدين المنتمين لجيلهم. وتمّت الاستعاضة عن البنوّة بالانتماء إلى « أخويّة » وبنوع جديد من الممثّلين تحدّد هذه الأخويّة خصالهم، وقد مارس فيها مخرجو الموجة الجديدة ما يمكن أن نسمّيه زواج الأقارب في تبادلهم لنفس الممثّلين.

وشهدنا ظهور وتبادل ممثّلين لم يكونوا بالضّرورة ممثّلين أو مؤدّين كبارا ولكنّهم كانوا أجسادا ناقلة بامتياز لرغبات المخرجين، أجسادا فريدة من نوعها، حاملة لإيقاعات جديدة ولأنماط جديدة في الإلقاء، ويمكن أن نذكر منها آن فيازمسكي و إيدي كونستانتين كأمثلة استثنائية بعض الشّيء.

نشأت الرّغبة السّينمائية عند غودار في التّعامل مع آن فيازمسكي بعد اختيار روبار بروسون لها والتّعريف بها من خلال فيلم Au hasard Balthazar (1966). تجوّلت طيلة عشر سنوات بسرعة كبيرة بين الإخوة غودار، بازوليني، ماركو فيريري، كارميلو بيني، ألان تانر، فيليب غاريل وأرياتا. الممثّل الّذي يمكن اعتباره جسدًا ناقلا، هو ناقل لرغبة الآخر قبل كلّ شيء. و لقد كان غودار حسّاسا لتبلور رغبة الآخر في جسد ممثّلة كنجمته الأولى جين سيبرغ المطبوعة بأوتو بريمنغر ودوميزيانا جيوردانو في Nouvelle Vague، مرورا بممثّلات أخريات. وإن شئنا استعارة مقولة جاك لاكان، فيمكننا القول بأن رغبة الممثّل في السّينما هي في الكثير من الأحيان رغبة الآخر.

من الممكن أن نتقصّى آثار حركة رغبة الممثّلين داخل أخويّة المخرجين غودار-فاسبيندر. إيدي كونستنتين هو نموذج الممثّل-الجسد النّاقل الّذي سيجد نفسه (وأكاد أقول : « رغما عن أنفه ») داخل أشكال شتّى من السّيناريوهات المترابطة مع الأخويات وعلاقات البنوّة. هو من أصول أمريكية، وصل إلى فرنسا في آخر الحرب العالمية الثّانية، وسيبقى محتفظا بلكنته الغريبة طيلة حياته، ولعب العديد من الأدوار كان فيها محقّقا خاصّا أو منحرفا في أفلام كان يسمّيها غودار: « الجزء الصّالح من السّينما الصّغيرة للخمسينات »، وهي سينما شعبيّة من الصّنف الثّاني بعيدة كل البعد عن الرّوح الجدّية التي تتسم بها السّينما الفرنسية. دعاه غودار في « La paresse  » (أحد سكاتشات فيلم Les sept péches capitaux) سنة 1961، ثمّ في Alphaville (حيث لعب دور ليمي كوسيون) سنة 1965 وذلك لأنّ في تمثيله شيء لا-بسيكولوجي و بارد الأعصاب ومعدني. إيدي كونستنتين هو كذلك عبارة على سحليّة من الأزمنة الغابرة بصوت رتيب ولكنّه ذو تدفّق فريد من نوعه، وهو على كلّ حال أبعد ما يكون عن الواقعيّة.

سنة 1970 استعاره فاسبيندر من غودار وجعله يمثّل في فيلم يتحدّث بدوره عن تصوير فيلم، Prenez garde à la Sainte Putain (وهو ردّ على فيلم Le Mépris)، حيث يلعب هو نفسه دور مدير الإنتاج في خدمة المخرج الّذي يتقمّص دوره لو كاستال، جسد ناقل آخر تنقّل بين أعضاء الأخوية، الإيطالي بيلوكيو، الألماني فاسبيندر والفرنسي غاريل. صور فاسبيندر في هذا الفيلم فراغا صحيّا راديكاليّا حول شخصيّة إيدي كونستنين يمثّل هو نفسه مركزه المعتّم والمعدني، فراغ يفصل المقدسّ ( الذي يجعل الممثّل شبيها بالقديسة العاهرة La Sainte Putain) عن المشاغل اليوميّة المدنّسة لفريق التّصوير.

سنة 1981، صوّر غودار Passion حيث استعار من فاسبندر هانا شيغولا (الّذي حافظ على إسمها في الفيلم)، كما فعل هذا الأخير مع إيدي كونستنتين وصوّر بدوره فيلما عن تصوير فيلم كإجابة على فاسبيندر، مستدعيًا لشخصيّة المخرج الممثّل البولوني لفيلم Wajda، جرزي رادجيفيلوفيتش. بعد وفاة فاسبيندر سنة 1982، بدأ غودار في الحديث عنه بصفته المخرج الوحيد الّذي واجه بطريقة مباشرة تراث الآباء النّازيين أو المتعاونين مع النّظام النّازي، وذلك قبل أن يشرع في مشروعه الشّخصي الكبير عن ذاكرة القرن، Histoires(s) du cinéma.

سنة 1991، أُقتُرِحَ على غودار تصوير فيلم عن الوحدة. فاختار معالجة وحدةِ بلدٍ : ألمانيا الشّرقية، واستدعى لآخر مرّة إيدي كونستنتين وهو طاعن في السّن ليروي حكاية آخر جاسوس ألمانيّ شرقيّ. حدث أن سقط جدار برلين خلال تصوير الفيلم ولم يعد لسيناريو الجوسسة معنى كبير إلا إذا واصل الأسطورة في ضرب من الوحدة الجليديّة فيصبح إيدي كونستنتين خليفا لذاته، معدنا خالصا كما لم يكن أبدا. نرى ذلك في هذا الفيلم الأخير حيث يضعه غودار في مواجهة مع أحد ممثّلي فيم فاندارز، هانز زيكلر، يجوب أنحاء ألمانيا الشّرقية سابقا في نفس الوقت الّذي شرع فيه غودار في تخمينه السّينمائي حول تاريخ القرن الّذي سيمرّ بالنّسبة إليه أساسا بألمانيا وروسيا.

إنّ هذه العناصر برمّتها وبتشابكها هي الّتي تكوّن علاقة غودار بالممثّلين في أفلامه. خاصّة وأنّه تمّت الاستعاضة بالضّرورة عن الجزء التّقليدي من إدارة الممثّل الّذي يرفضه غودار بمعطيات ومحدّدات واستراتيجيّات أخرى في علاقته بالممثّل. من الغباء أن نعتبر من ناحية أنّ إدارة الممثّل هي الجانب الأكثر نبلا والأحقّ بالاهتمام والتّحليل في علاقة غودار بالممثّلين، وأنّ نعتقد من ناحية أخرى أن عمل غودار لا يندرج في تاريخ جماعيّ، أي في تاريخ السّينما العصريّة. ففي هذا الفن الهجين أنطولوجيا، لا يمكن لمسألة الممثّل إلاّ أن تكون متعدّدة ومختلطة. وهو ما تبرزه قراءة نصوص برغمان، الّتي تحتل فيها قضية الممثّل مكانة مركزيّة سواء في حديثه عن المسرح أو السّينما، فهي  تؤكد نهائيّا جوهره الهجين. وبعيدا عن أيّ شكل من أشكال اللاّمبالاة أو الكسل، فإنّ لا-إدارة الممثّل عند غودار دليلٌ على إنفتاحه المتواصل على علاقة دائمة التّوتر بالممثّل، علاقة تتطوّر مع كلّ يوم جديد من تصوير أفلامه بلا ضمانات وإن كانت لا تخلو من مخاوف وهواجس ذّاتية.


(24) Jean-Luc Godard, Scénario du film « Passion », 1982, vidéo.
(25) Jean-Luc Godard, Sauve qui peut (la vie), 1979, avec Isabelle Huppert, Jacques Dutronc, Nathalie Baye.
(26) « Filmer un nu », in Alain Bergala, Nul mieux que Godard, Paris, Cahiers du Cinéma, 1999.
(27) Godard par Godard, op. cit.
(28) Simone Weil, La Pesanteur et la grâce, Paris, Plon, [1947] 1999, 209 p.
(29) Jean-Luc Godard, Passion, 1981, avec Isabelle Huppert, Michel Piccoli, Hanna Schygulla.

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page