طلامس لعلاء الدين سليم يخترق كل الحدود

بقلم الطاهر الشيخاوي

 

في جدلية المهرجانات والأفلام أقولها صراحة : هناك أفلام يرفع مهرجان كان من شأنها وهناك أفلام ترفع من شأن المهرجان. وكي لا يشوب كلامي أيّ ُلبس أؤكد أن « طلامس » ينتمي إلى الفئة الثانية، وكي لا يشوب   كلامي أيّ لبس أؤكد أن علاء الدين سليم سينمائيُّ عظيم، لاحظتم أنني لم أظف تونسي ولا مغاربي ولا عربي ولا إفريقي ولا متوسطي ولا عالمي، لأنه كل ذلك معا (أتحدث طبعا عن السينمائي)، لأنني أخشى أن يقلل النعت من المنعوت، أخشى عدم اللياقة إن قلت هو سينمائي تونسي عظيم أو سينمائي عالمي عظيم.  اللياقة هي أن أقول إن علاء الدين سليم سينمائي عظيم والوجاهة هي أن أقول إن « طلامس » ينتمي إلى فئة الأفلام التي ترفع من شأن مهرجان كان

هل من الضروري أن أوضح أن اقوالي هذه لا تلزم أحدا سواي؟

كعادته لا يميل علاء الدين سليم في كتابته إلى التسلسل الدرامي الخطي فالعمل جاء في جزئين  كما كان الشأن في « آخر واحد فينا« . الجزء الأول واقعي ومعهود يحمل كل علامات السينما الإجتماعية بينما يحمل الجزء الثاني علامات غريبة بل غرائبية. منذ خروجه من الثكنة بعد موت أمه المتزامن مع انتحار زميله يدخل س. (هكذا اختار علاء الدين تسمية شخصيته) في عالم مغاير بعيدا عن السياق الحضري، يدخل س. في غياهب أخرى، وخلافا ل« آخر واحد فينا » لم يكن التحول في نفس الدرجة من الفجئية والحدّة فضلا عن أنه أخذ حيزا زمنيا أطول. لم يشق س. البحر (بالرغم  من أهمية عنصر الماء في جمالية الفيلم) بل بقي على اليابسة، من هنا جاءت حركات الكاميرا الطويلة المسترسلة كأسلوب للتعبير عن الاختراق على الأقل مرتين في الشريط، مرة أولى في المدينة بطريقة الدرون ومرة في الغابة بطريقة الكاميرا المحمولة وهي تتابع عن قرب ومن ورائه الشخصة عارية مجروحة. ولما نقول إن العمل جاء في جزئين فهذا صحيح نسبيا لأن الجزء الأول وان كان فعلا واقعيا طبيعيا فقد حمل في طياته عناصر غريبة يستحظرها المشاهد في الجزء الثاني سواء كانت شكلية كالشاشة السوداء أو مضمونية كل الحية الميتة في الحديقة، ثم الشرخ جاء مرتين، المرة الأولى مع شخيصة الرجل والمرة الثانية مع شخصية المرأة (تحية بالمناسبة لسهير بن عمارة وعبد الله المنياوي). تكررت العملية مع الشخصية الثانية فانتقلنا أولا من الثكنة ومنزل س. إلى الغابة مرورا بالمدينة وانتقلنا مع شخصية المرأة من منزلها الفخم إلى الغابة وان كان انتقالها أسرع (سرعة لا تخلو من دلالة). إذن أدخل العنصر النسائي الذي كان غائبا في الأفلام السابقة لعلاء الدين تعقيدا في التركيبة السردية، كما أدخل تعقيدا في البنية الدرامية. فيلتقي هنا رجل بامرأة وليس رجل برجل، ويطرح السؤال : كيف سيتعامل المخرج مع هذا اللقاء الأبدي ؟ هنا تأتي المفاجأة الثانية والهامة. لن نبوح بجزئيات القصّة حتى نترك للمشاهد لذة الإكتشاف، ولكن عندما تتحول شخصيات سليم من عالم الواقع إلى عالم ماوراء الواقع تتغير قواعد اللعبة وتعاد بنية المنظومة السائدة ويتظافر العنصر البشري بالعنصر الحيواني والنباتي والمعدني على شاكلة أخرى فريدة من نوعها، هي نتاج متفرد لخيال المخرج. فعلاقة الإنسان بالطبيعة تتغير تماما كما تتغير علاقة الانسان بالحيوان (تجدر الإشارة هنا إلى أهمية صنف الزواحف) والرجل بالمرأة في تركيبة مثيرة جدا تحمل أكثر من مفارقة

بعد عرض الشريط دار نقاش بين المشاهدين وعلاء الدين سليم حول أبعاد خطابه المفترض وبطبيعة الحال طرحت قضايا البيئة والجندر التي هيمنت على هذه الدورة. أسئلة تحمل دلالات هامة من الناحية السوسيولوجية في التمثلات الغربية للحضارة العريية الإسلامية جديرة فعلا بالبحث ولكن هذا موضوع آخر

ولكن لا مفر من السؤال خاصة إذا اعتبرنا حالة الإرتباك التي يجد فيها المشاهد نفسه أمام هذه النوعية من الأفلام

لنقتصر على القول ببساطة إن علاء الدين سليم تجاوز كل الحدود، حدود الواقعية وحدود الخطية وحدود الأجناس السينمائية والأجناس البشرية والجنسية كما تجاوز الحدود الجيو سياسية لا فقط من حيث جنسية الممثلين ولكن في طبقات الشريط نفسه، فيمكن رصد أصداء المخرجين الكبار الذين لا يصعب التماس عوالمهم في الأثر مثل كوبريك وأبيشاتبونغ وغوس فان سانت وغيرهم

لاحظتم انني لم أتعرض إلى الجانب السياسي ل« طلامس » على بداهته ولبداهته، لا فقط من حيث انطلاق الأحداث  (هروب س. من الجيش ومقاومة الإرهاب) وهذا لا قيمة له في الدلالات العميقة للفيلم ولكن من حيث ما يثيره عالم سليم من تساؤلأت (وكنا أشرنا إلى هذا الموضوع في أعمال الجيلاني السعدي) حول الخيوط الخفية الرابطة بين اختراق حدود العالم و إعادة تركيبته على أسس جديدة من ناحية والغليان السياسي والإجتماعي في تونس بالتحديد وفي العالم وما نشاهده دون تحديده من تركيبة جديدة للمؤسسات الراهنة من ناحية أخرى. إلى هذا كله سنعود في مناسبات قادمة بعد خروج الفيلم على الشاشاة

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page