حكايات القمر الغامض بعد المطرأوالكيمونو والساموراي والتاريخ

بقلم الطاهر الشيخاوي

كتبت هذا النص  إثر حصّة « السيني لقاءات » (21 أفريل) التي تم فيها نقاش شريط كنجي ميزوغوشي « حكايات القمر الغامض بعد المطر » في إطار نشاطات مهرجان السينماءات الإفريقية بمنطقة آبت، وهي نسخة معربة لمقال أصدرته باللغة الفرنسية

ماذا عسانا أن نقول عن « حكايات القمر الغامض بعد المطر » دون تكرار ما كُتب وما قيل بعدُ؟ ولكن دعنا نكرّر حتى نذّكر على الأقل بدواعي الإعجاب الذي أثاره الشريط في أوساط النقاد والسينمائين الناشئين الفرنسيين في بداية الخمسينات. كتب جان لوك غودار وكتب جاك ريفات وكتب إيريك رومير ولكن جان دوشي (Jean Douchet) هو من صاغ ذلك الإعجاب في أفضل صياغة وأدقّها : لا يتمثل الإخراج السينمائي في وضع المكتوب في صُور ولا يقتصر على سرد المعنى وإنما هو تفكير بل تفكير في المعنى نفسه. وفي سياق حديثة عن « حكايات القمر الغامض بعد المطر » يستعمل دوشي عبارة « العرض »  (projection) ويكرّر العبارة مرات عديدة. لنأخذ مثالا واحدا والأمثلة متعددة : نشاهد في بداية الفيلم غنجورو وهو يُعدّ عربته للذهاب إلى المدينة لبيع أوعيته وكلّه حماس بسبب ارتفاع الأسعار زمن الحرب ؛ زوجته مياغي تطلب منه مرافقته ولا تتجرأ على إقناعه بالعدول عن قراره بالرغم من الحيرة البادية على محياها ولكن بدون جدوى. في عمق الحقل يظهر زوجان، توبي يتقدم بخطى ثابتة حاملا قبعةً من القش كالدرع وزوجته أوهاما، وهي شقيقة غنجوروي، تطارده وبيدها معلقة خشبية كالسيف، تُوبخه مُزمجرةً، متهمة إياه بعدم قدرته حتى على الدّفاع عن نفسه، غير مخفية اعتراضها على ذهابه إلى المدينة. توبي هو أيضا مصرّ على الذهاب حالِما بأن يصبح سامورايا. يمكن قراءة ظهور الزوجين توبي وأوهاما في خلفية اللقطة  كانعكاس مضخّم مبالغ فيه ومضحك  للوضع الذي يوجد فيه غانجورو ومياغي. ليس هناك أي علامة مرئية أو صوتية ولا أي تعليق يدلّ بصريح العبارة على هذا الإنعكاس، فما يسميه دوشي بالعرض يكمن في امتداد الحدث وتطوّره في نفس اللقطة. من هنا جاء استعماله المتكرر للقطة المشهد. وعلى المشاهد أن يدرك هذه العلاقة لأنه يجب فهم تعليق دوشي أيضا كمثال لعملية القراءة النقدية. الظاهرة تتكرّر مرارا في الفيلم كما لو كان السينمائي في الوقت ذاته يعمل ويعلّق على عمله من خلال امتداد ما يحدث في نفس اللقطة، أو كما لو كان ضميرُ الشخصية متجليا مجسّدا أمام عينيه وأعيننا في اتساع فضاء اللقطة. تصبح الظاهرة أكثر وضوحا في المدينة عندما يشاهد غنجور زوجته وهو بصدد إختياره كيمونو ينوي إهداءه إياها. أو عندما يلتقي بها عند رجوعه إلى القرية وهي (تبدو) على قيد الحياة بعد موتها. فهي ليست إلا تجسيدا لما يختلج في نفسه. ولكن الأمر في عديد الحالات الأخرى أقلّ وضوحا بكثير. العمل بأكمله يرتكز على هذا المبدأ، فعندما قرّر غنجورو وتوبي وأوهاما الذهاب إلى المدينة فضّلوا المرور عبر البحيرة تجنبا للمخاطر. فكرة في السيناريو تتحول بفعل الإخراج السينمائي إلى تعلّةٍ لغاية أخري : عبور البحيرة هو بالتأكيد إنتقال من منطقة إلى منطقة آخر، فالبحيرة  تفصل قرية ناغاهاما عن مدينة أوزيما، وهو شرط تحقيق حلم الرجلين لكنه يتبيّن أن المدينة بالنسبة إليهما موطن الوهم، ذلك الذي أدّى بغنجورو إلى بلوغ القصر ومكّن توبي من الإرتقاء إلى المرتبة المرجوّة. فيصبح هذا سامورايا (كاذبا) وينال ذاك حبّ أميرة (وهمية). في الأثناء تحولت أوهاما إلى مومس وقُتلت مياغي في الطريق. إن الغشاوة التي لفّت عقل الرجلين سبقها وهيأ لها سينمائيا الضباب الحالك الذي غمّ البحيرة وضاع فيه العابرون عن أنظارنا. لذلك ليس الجزء الثاني  امتدادا فقط لمسيرة الشخصيتين وليس فقط مرحلة رقيٍ زائف. وإنما هو أيضا، وهذا ما أراد دوشي قوله، تطوّر بالصورة والصوت لرغبة الشخصيتين وتصوير لما يختلج في خيالهما وما يدور في ضميرهما في قالب سردي وفي مواصلة للحكي. تمتدّ الأحداث وفق خطّ واقعي يحفّه خطّ رهيم من الفانتاسم غير معلن لا يظهر لنا كما هو أو لا يظهر دائما بوضوح. كل هذا سبق أن قاله السابقون وكرّروه مرّات عديدة كما كرّروا مرارا ذكر الأساليب التي استعملها ميزوغوشي للتعبير على ذلك أي الكاميرا الفوقية واللقطة المشهد وقلّة اللقطات القريبة من الشّخصيات

ولكن ما يهمنا في لقاءاتنا السينمائية وما يفسّر اِنعطافنا إلى التجربة الآسياوية هو إستعمال الباراديغم الثقافي ومدلولاته. أي كيف يجيب ميزيغوشي على سؤالنا حول مواضع « الثقافة » في الفيلم, وإلى أي مدى يكون الفيلم أكثر أو أقل انتماء للثقافة الإفريقية أو الآسياوية في قضيّة الحال ؟ قد يحمل تحليل جان دوشي جوابا على السؤال في طيّات نصوصه. على أهمية المسألة، لن نقف على تعريفات مفهوم « الثقافة » وناهيك مفهوم « الثقافة الإفريقية » أو أي ثقافة أخري تجنبا للإطالة والملل . لنعتمد المفهوم المتداول للكلمة أي التراث الفكري والمادي لمجموعة ما. ودعنا نأخذ ثلاثة عناصر يمكن بسهولة اعتبارها من خاصّيات الثقافة اليابنية. وهي كافية لأن نصنع منها فيلما يابانيا : الكيمونو والساموراي وتاريخ اليابان. يمكننا طبعا إضافة الجغرافيا واللغة والموسيقى، ولكن لنقتصر على هذه العناصر الثلاثة. إذا شاهدنا الفيلم جيّدا أدركنا أن اختيار هذه العناصر تندرج في الديناميكية الفنية للعمل ذاته وليس في طرز نسيج ثقافي أو تصوير للثقافة الوطنية. بعبارة أخرى ليس الكيمونو والساموراي والتاريخ أفقَ العمل كما أ، الإخراج السينمائي ليس وسيلةً للرفع من قيمة الثقافة اليابانية أو تمجيدها. ليس وجود هذه المعطيات غاية الفيلم وإنما هي مادّة ضرورية لديناميكيته، منخرطة في عملية إنتاج المعنى. يرغب الخزاف الآسياوي في الإحتفاء بزوجته، فيقرّر إهداءها كيمونو. لكن مياغي إمرأة ريفية، مرتبتها الإجتماعية أبسط من أن يناسبها الكيمونو أو لا يكفي للرفع من شأنها. « جمال هذا الكيمونو يفوق مكانة زوجتك » هكذا قال له بائع القماشأجّجت الحرب طموح غانجورو إلى حدّ الهذيان فأربكت بصيرتَه وأضحى عاجزا على التمييز بين الواقع والخيال. خيّل له أن زوجته دخلت الدكان وقاست الكيمونو ثم انصرفت، ولم تكد تختفي حتّى قدمت من خلفه وازاكا الشبح. فكان لا بد أن تصبح مياغي أميرة. وأصبحت أميرة. طبعا لا يوجد هناك ما يدلّ صراحة على ذلك، ولكن الفيلم حقق رغبة غنجورو. ذلك هو العرض. في آخر الأمر ليست واكازا سوى مياغي وأصبحت مياغي بفعل هذيان غنجورو. ولكي يكتمل هذا التحوّل كان لا بدّ أن تقضي مياغي نحبَها في لقطة مشهد من أجمل اللقطات المشاهد في تاريخ السينما. مشهد منفصل عن اللقطة السابقة واللقطة اللاحقة كأنه لوحة متحركة للرسام بيتر بروغيل الأكبر بين مذبحة الأبرياء وانتصار الموت، وليس صدفة أن يكون الرسام الفلمنكي الهولندي معاصرا لأحداث الفيلم. توبي الفلاح يرغب في أن يكون سامورايا، وهمُه لا يزيد غرابة عن وهم غانجورو ، جاء فقط في شكل مضحك ومضخّم. يصبح سامورايا ولكن هو أيضا يدفع ثمنا باهضا مقابل ذلك : تتعرض زوجته إلى اغتصاب جماعي وتسقط في البغاء فتصبح مومسا. أما في ما يتعلق بالتاريخ، فأحداث الفيلم تدور في آخر القرن السادس عشر في فترة اتسمت بتحولات إجتماعية عميقة. تتطور التجارة ويكتسي المال أهمية، ولكنه لم يوّلد بعدُ قيَما جمالية، فالقيم لا تزال أرستقراطية بالأساس. سارعت الحرب في الإنزلاق من المنفعة الحرفية إلى الجمالية الأرستقراطية. إن البعد « العجائبي » ناتج عن هذا الرقي الزائف. ليس من باب الصدفة أن يمثل عبور البحيرة أوّل تعبيرة للعجائبية. كأننا بميزوغوشي يستدعي بدوره طيفا آخر : المخرج الألماني فردريك مورناو صاحب شريط « نوسفيراتو مصاص الدماء ». « وبعد أن عبروا البحيرة اعترضتهم الأشباح » هكذا كان يمكن عنونة هذا العبور لو لم يتمّ محو كل علامات العجائبية التقليدية، تلك هي عبقرية ميزوغوشي. تسير الأحداث على وتيرة الزورق وهو ينزلق على مياه بحيرة بيوا ملفوفا في ضباب صباحي. اليابان موجود فعلا بقوة في الشريط بتاريخه وترابه ورموزه، ولكن من خلال نظرة كنجي ميزوغوشي الذي بسط « الثقافة » في منأى من أي صورة جامدة، فأعاد قراءتها وأمعن النظر فيها مستعملا أدوات السينما. فجاءت الرؤية متفردة يابانية وكونية في ذات الوقت. قدم « حكايات القمر الغامض بعد المطر » إلى أوروبا في موعده في بداية الخمسينات. فالنقاد الفرنسيون في تلك الفترة والذين أصبحوا فيما بعد سينمائيين لم يفتهم الوعي بحمّى إعادة البناء بعد الحرب و هيجان رأس المال المدمّر

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page