النهر »، لغسّان سلهب، أو الغرابة الموحشة »

بقلم إنصاف ماشطة، ترجمة هاجر بودن

 

إنّ ما يشدّ الانتباه في النهر، آخر أفلام غسّان سلهب (2021)، هو قبل كلّ شيء موضوعه البسيط إلى أبعد الحدود: امرأة (تمثيل يُمنى مروان) ورجل(تمثيل علي سليمان) يتوغّلان في غابة، بعد أن تغدّيا في مطعم على مقربة منها، في جوٍّ خريفي. نهايةُ الغداء – وقد ظلّا صامتَين – لا تكشفُ شيئا عن علاقتهما. بلا سبب تتوغّل المرأة في الغابة ثمّ يتبَعُها الرجل ويَشْرع في البحث عنها. هذا الزّيغ عن الطريق لم يكن على ما يبدو مُخطّطا له (نفهم أنّهما كانا يَنْوِيان المُغادرة فَوْرا بعد الغداء لأنّهما توجّها أوّلا إلى السيارة). لا شيء يفسّر النزول إلى الغابة. من الأكيد أنّ الدافع ليس مُرافقةُ علاقةٍ مُشْرِفة على نهايتها بنوع من الشاعرية ولا حتّى تلك الطائراتُ العسكرية التي سمعناها تجوب السماء حين كان الرجل والمرأة قرب السيارة. هذه المغامرة التي دُعينا إليها – الحسيّة والذهنية في آن – إنّما هي نتيجةُ قطيعةٍ مع العالم المألوف، وتجسيدٌ لِتَحَلُّلِ مَبدأ السّببية الذي تتميّز به كلّ أفلام غسان سلهب بِطُرُق مختلفة. من جهةٍ أخرى، في تلك القطيعة صدًى لِما جاء قبل الجينيريك، لَمّا سمعنا بداية أليس في بلاد العجائب بِصَوت امرأة. ذلك الصوت الافتتاحي الذي يُعبّر عن الاغتراب سَيتجاوب في وقت لاحق مع ما تَتّسِمُ به رحلة الشّرود في الغابة من غرابة في صلة بالذات والعالم. النهر – آخر شريط من ثلاثية حول التضاريس والمكان – ليس الشريط الوحيد لغسّان سلهب المبني على مبدأ قطيعة أوّلية. في الجبل، نشاهد رجلا يَدَّعي السّفر، يَصل إلى المطار ثمّ يُغيّر وجهته لِيقصد الجبل، يحبس نفسه في غرفة فندق ويشرع في الكتابة. في الوادي، الذاكرة المفقودة لِشخصيّةٍ لا نعرف عنها شيئا هي التي تجسّد القطيعة وتقودنا إلى عالم غريب. كلّ قطيعة، كما في شريط النهر، تعبيرٌ عن إرادةٍ في تمثيل الأشياء بطريقة تقطع مع الواقعية وتجعل من عالمِ كلِّ شريط ثمرةَ تجربة تلتفّ حول خطّ سردي في منتهى النّحافة. بالمقارنة مع الوادي، يبدو الخطّ السردي في النهر نحيفا أكثر: تَقَلَّصَ عددُ الشخصيّات (رجل وامرأة وكلب وغابة) واقتصرَ البُعد الجيوسياسي على الطائرات العسكرية التي نرى آثارها في السماء ونسمع أحيانا ضجيجها قادما من خارج الحقل، وأرضٍ ملغومة، وصناديق معدنية عُثر عليها في مغارة وعليها حروف عبرية

كُلّما نزلنا داخل الغابة كُلّما كَشَف الشريط علامات تفكّك العلاقة بين المرأة والرجل وكُلّما انكَشَفتْ وجوه الغرابة والاغتراب. تتخلّلُ مَسارَ الشخصيّتَيْن فتراتٌ يلتقيان فيها من جديد دون أن تتبدّد بينهما مسافةٌ مُفعَمةٌ بالصّمت، وذلك حتّى في لحظات من الحميمية الجسدية والجنسية بعيدة كلّ البعد عن العاطفة. وغيابُ القُبُلات أثناء مُمارسة الحُبّ ورفضُها الواضح إثرها مِن قِبل المرأة – تُذكّرُ الرّجل أنّهما مُنفصلَين – تعبيرٌ عن القطيعة التي تُحيل الجنس إلى منطقة مُظلمة تقع ما وراء العواطف وتتجاوزها، إلى نوع من الطاقة الأرضية المُلازمة للطبيعة. خلال لقاءٍ آخر، كذلك بعد الوِصال، يتذكّر الرجل مُهمّتَه الأخيرة في بودابيست قائلا إنّه خلالها رأى المرأة في المنام والحالُ أنّهما لم يلتقيا بعدُ في الواقع. ممّا يجعل المرأة تتساءل: ربّما لا نأتي للوجود إلّا لأنّ أحدا عبّر عن رغبته في أن نكون موجودين؟ في مُعالجةِ علاقة الرجل والمرأة إبعادٌ لكُلّ اعتبارٍ سيكولوجي أو تفصيلٍ ملموس من شَأنه شرحُ أسباب الانفصال. هي معالجةٌ تجعل التساؤل يدور في منطقة روحانية تنتمي إلى عالم الغيب، منطقة تخترقُها تيّارات باطنية عصيّة على كلّ عَقْلنة. رغم هذا الامتناع عن سرد الأحداث على مستوى معالجة قصّة الرجل والمرأة، يرفض المخرج كلّ تعميم ويُصرّ على تمثيل كلّ كائن في تفرّده غير القابل للاختزال. هُنا يَكْمُن معنى المُحاكاة الساخرة لقصّة آدم وحوّاء. تُلامس المرأة تفاحةً خمجت على شجرة، يُناولها الرجل تفاحةً أخرى في حالةٍ أفضل فَتُجيبه مُتهكّمةً: « لا ينقص إلّا الثعبان ». هو ليس فقط رفضٌ للتعميم المُلازم للأسطورة، هو تفكيكٌ لِرَمْزٍ بالٍ وإشارةٌ إلى أنّ زمنَ القصص العظيمة قد ولّى. الإحالة إلى قصّة من قصص الكتاب المُقدّس لتحريفها تُسلّط الضوء، في نفس الوقت، على خيار التفرّد المُطلق ونحافةِ الخطّ السردي. كما أنّ كُلّ لقاء بين الشخصيّتَين يُشكّل رِهانًا لِما فيه من إغراءٍ بتملّك الآخر. الهاتف الجوّال هو آخر شيء يتبلور حوله نزاعٌ لم يَعُد له داع ولا محلّ: الرّجل يتمادى في رغبته في تصوير المرأة وهي ترفض بشدّة أن يتمّ الاستيلاء عليها بِواسطة الصورة. حين تفْتَكُّ الهاتفَ تكتشفُ صُورًا منها التُقِطتْ دون عِلمها في فتراتٍ أخرى من العلاقة. تلك هي الآثار الوحيدة التي نتعرّف عليها من قصّتهما، آثار خفيفة مثل أنفاس امرأة محبوبة نائمة

باستثناء لحظات اللقاء القصيرة في مسارٍ مُلتوِ وبلا معالم، ما يسود هو الانفصام. تَتْبَع الكاميرا الشخصيّتَين بالتداول. كلٌّ منهما يسير من جهته ممّا يفرض علينا غياب الآخر عن أنظارنا دون أدنى تعويض قادم من خارج الحقل، دون أدنى تواصل يُمَكّن من تخيُّله. حين يختفي أحدُهُما، يصبح الآخر بعيدا عن المتناول، ولا تسمح أيّ وسيلة بتحديد موقعه في المكان بالنسبة للشخصية التي في الصورة، وذلك يضعنا أمام وحدة جذرية ويزيد من عظمة الغيب المتجاوِز لِخارج الحقل. إنّ فيلم النهر يُراهِن على تعويض البُعد السيكولوجي والعناصر السردية التي من شأنها تفسير الماضي والحاضر – أي من خصائص قصص الحبّ في السينما – بِقُوَّةِ طرحٍ وجودي يَكمُن في الإخراج وحده. انعدامُ فاعليّة ما هو خارج الحقل والذي تمّ استبداله، على ما يبدو، بِهُوّةٍ اِلتَهمتْ الآخر وأغرقته في غرابة الغيب المُلازم للمكان، يحمل تجسيدا مُطْلقا لوحدة الرجل والمرأة وانفصامهما النهائي. وهناك أيضا الانفصام الداخلي للذات والتشوّش الزّمني بفعل تراكب الصّور الذي هو من أهمّ مميّزات سينما غسان سلهب فيما يُدخِلُ على زمنيّة الأفلام المتقطّعة فترات تَعَطُّل ويزيدُ الصّورةَ تعقيدا. لكنّ الطابع الوجودي لا يقتصر على هذا، لأنّ الرجل والمرأة ليسا وحدهما المَعنيَّيْن، هناك العالم المحسوس وكلّ ما يسكنه. الإخراج يُكرّس للغيب مكانا، « يُدغمه » في الواقع ويُشعِر بوجوده. هناك لقطات مُصَوَّرة من زاوية تبدو في الأوّل مُتغايرة ومُتعالية، لقطاتٌ تُخَلِّف انطباعا بحضورٍ خفيّ يترصّد الشخصيّتين والمكان. وذلك التوجّس لا ينتج فقط عن أصوات الطائرات الحربية خارج الحقل؛ هناك أيضا موسيقى شريف صحناوي التي تخلق توتّرا، وتضخّم حجم الخطر المُحدّق، وتُضفي على الشريط مِسحةً تُذَكّر بِأفلام الرُّعب. الموسيقى تعطي لمغامرةٍ في مُنتهى الغثاثة لامرأة ورجل ما انفكّا يلتقيان وينفصلان بُعدا شبه خيالي، وتَشحنُه بِعُنصر تشويق، إلى درجة أنّنا نَرْتَقِبُ في كلّ لحظة وقوعَ حَدَثٍ خارق لقوانين الطبيعة. واستحضارُ الغيب هذا له صلة وطيدة بالضباب الذي يكتنف الشخصيتين. الضباب – كَشكلٍ وكَظاهرة طبيعية لا تتجزّأ من المكان – هو في حدّ ذاته طلبٌ للغيب، ليس فقط لأنّ الضباب يُقلِّص من بيان الكائنات والطبيعة عامّة، بل كذلك لأنّ بِوِسْعِنا اعتبارُه تَجَلٍّ من تجلّيات الغيب. والمؤثرات الخاصّة، بتكثيفها للضباب، ترسُم حدودَ غرابة المكان. تقترب الكاميرا من الأرض المكسوّة بأوراق وجذوع أشجار، فَيُخيَّل لنا أنّ خامةَ العالم تنبثق عن الغيب أو عن روح الكون المُعذَّبة والمُثيرة للوِحشة. تُشير جُثّة الثعلب التي تكتشفها المرأة عند دخولها الغابة إلى أنّها غابة مسكونة بالموت. والكلب الذي يتبع الرجل والمرأة ويرمُقهما يبدو هو الآخر كأنّه وجه من وجوه الغيب

تقريبا قُبَيلَ نهاية الفيلم، حين تصل الشخصيّتان كلٌّ على حِدة إلى النهر، ينزل الليل ويُحوّلهما إلى شبحين. نَتبعُ الرَّجُل بِمُفرده إلى مغارة، ثمّ نعود إلى المرأة فنكتشفُه هُوَ – الرجل – في الخلفية، في زاوية من الصورة، كأنّه شبح. يَبُوحُ بِحُبّه للمرأة في نهاية رحلة ملتوية عبر الذات والمكان حوّلتْهُما إلى كائنَيْن من فصيلة الأموات الأحياء. والأموات الأحياء لهم في سينما غسان سلهب بُعدٌ وجودي وسياسي (أكثر وضوحا في شريط أطلال أو الرجل الأخير) مُتّصلٌ اتّصالا وثيقا بِحربٍ ما انفكّت تُمزّق سماءَ المكان ونكتشفُ آثارها في المغارة. صحيح أنّنا نجهل كلّ شيء عن ماضي الشخصيّتين وعن مَواقِفِهما السياسية، لكنّ آثار عسكرة الرجال والنساء لم تَزُل: نجهل كلّ شيء عن تلك المُهمّة في بودابيست لكن يُمكِن افتراض ارتباطها بصراع سياسي، فَالرّجل له مسدّس والمرأة ترتدي سترة لونها أخضر عسكري. إلى ضآلة الخطّ السردي في قصّة حبّ على وشك الانتهاء ينضاف تمثيلٌ مُتشظٍّ للصراع الجيوسياسي في صلة بالمناخ الذهني للمكان. وما يجمع كلّ ذلك هو الغرابةُ المُوحشة لِمُغامرةٍ لا تنفصل فيها صعوبة الوجود والحبّ عن تمثيل الكثافة الوجودية للعالم التي تُغلّف الكائنات في تفرّدها، وإصرارُ علاماتِ الصراع على البقاء، واستمرارُ تهديداتٍ غير مرئية تُحوّل المكان إلى أرضٍ ملغومة

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page