إن شئت كما في السماء أو الكوميديا كآخر ذخيرة
بقلم جان ميشال فرودون

 Jean-Michel FRODON بقلم : جان ميشال فرودون
تعريب : الطاهر الشيخاوي

يلتقي السينمائي الفلسطيني إيليا سليمان من جديد بشخصيته الكوميدية والصامتة ليوسّع مجال اندهاشه واستيائه تجاه مآسي العصرويرفعه إلى مستوى العالم

كان من المفروض أن يشكل فيلم إيليا سليمان الجديد حدثا رئيسيا من أحداث كان 2019: ممتع ورشيق، لاذع وبارع، في تناغم مع أسخن الأحداث الراهنة، يتضمن كل ما من شأنه أن يلفت الإنتباه، بل كان جديرا كل الجدارة بالسعفة الذهبية

لكن « إن شئت كما في السماء«  تأثر بسبب عرضه في آخر يوم للمهرجان وسط مسابقة راقية جدّا، فكانت مشاهدته أدنى مما يستحق وإن لم يتمّ جهله تماما، اذ تحصل على تنويه خاص من طرف لجنة التحكيم

ومما زاد في البهجة التي أثارها فينا اكتشاف الفيلم هو أنه جاء في الوقت ذاته مجددا ومواصلا لأعمالٍ كنا تأسفنا لتوقفها منذ سنة 2009 أي منذ تاريخ خروج فيلم ايليا سليمان الأسبق « الزمن الباقي

إذ طال غيابه مدّة عشر سنوات، غياب أهم وجه من وجوه السينما الفلسطينية، غياب مخرج معاصر كبير

فلسطيني وفنان

فمنذ شريطه الطويل الأول « سجل اختفاء » مانفك سليمان يقاوم في سبيل الإرتقاء إلى مستوى تلك الصفة المزدوجة، صفة تربطه بأصله وكم ثقيلة هي انعكاسات هذا الإرتباط وصفة تُحيل إلى ممارسة فنّه ممارسة طموحة وخلاقة بدون تكليفه جبرا بقضية أو بمنطقة جيو سياسية بذاتها

كان يمكن أن يتحول هذا الجهد إلى فخّ خطير بالنسبة إلى فلسطيني أكثر من أيّ كان، فخشينا أثناء العشر سنوات المنقضية أن يكون الفخ قد انغلق على مخرج « يد إلاهية. فجاء « إن شئت كما في السماء »  كأجمل إجابة على هذه الخشية

إنّ من يعرف ولو قليلا أعمال هذا المؤلف سيجد كلّ مكوناتها بدءا بشخصيته المهرج شبه الصامت، شاهد مُندهش على جنون العالم ورداءته بما في ذلك جنون ورداءة أبناء بلده في الناصرة، المدينة العربية التي ولد فيها، ونشأ فيها، والتي كنا تعرفنا فيها على عائلته وجيرانه في أعماله السابقة

ينطلق الفيلم الجديد من هنا، بسلسلة من مشاهد تروي عبثية العالم المعاصر والقمع الإسرائيلي والفانتاسمات القتالية والذكورية المنتشرة أيما انتشارا بين الفلسطينيين كما تروي حقارات إخواننا الآداميين

نحن في واقع ملموس لبلد يعاني فيه جزء كبير من السكان من نير السلطة الإسرائيلية العنيف والغادر، ونحن كذلك في العالم كما أعاننا على رؤيته شابلين وتاتي وبولغاكوف ويونسكو

وثمةَ أيضا شخصيتان مهمتان، وإن كانتا صامتتين هما أيضا، تعبران عن الطبيعة المزدوجة للبطل: شجرة (مثمرة ومنهوبة ولكنها متجذرة) وعصفور (هزال داعب)

الشجرة والعصفور

في نصف الساعة الأولى يواصل الفيلم وصف واقع النساء والرجال الذين يعانون من السياسة الصهيونية، وصفاً يُحركه غضبٌ شديد قد نخطئ لو قللنا من شدّته وراء مظاهر مضحكة لامبالية وآسفة. التمهل والصمت والهزل هي أسلحة هذا السينمائي، أسلحة مانفك يشحذها بلا هوادة منذ خمس وعشرين سنة

كنا نعتقد أن سينما إيليا سليمان مخصّصة قصرا لهذه الأرض، الأرض الحقيقية والمتخيلة، فلسطين كما هي موجودة وكما تنفي اسرائيل وجودها. ولكن ايليا سليمان انطلق مرتفعا

فشخصيته تفعل ما كان قد فعله المخرج كشخص منذ زمن طويل : أتى إلى باريس ليستقرّ فيها، باريس حيث يدور الجزء الثاني من الفيلم الذي يتكون من ثلاثة فصول وخاتمة

    beautifull people هنا، في أنهج الدائرة الثانية وهي من أكثر دوائر باريس ثراء، تمرّ أمامنا الأجساد الفاتنة

لا ينتهي وهنالك يمتد طابور من المعوزين ينتظرون أكلة المطاعم الخيرية  fashion week  في عرض كأنما هو فاشن ويك

وأعوان الشرطة مرتادين أحذية تزلج في أداء مسرحية لا  تختلف نسختها كثيرا عن بالي المراقبة المستمرة

في باريس، شخصية الفيلم (والتي لا إسم لها شأنها شأن المخرج سليمان تواجه أو تتجنب مواجهة جدار الحقائق الثابتة الكامنة في أذهان أولائك الذين، هنا وهنالك، يعتقدون أنهم يعلمون بعدُ ماهية ذلك الكائن الغريب،« سينمائي فلسطيني« ، ولا يتصورون أنه لا يتطابق مع ما يعتقدونه

أشكال عدّة من المنفى

ثم تأتي نيو يورك قبل الرجوع إلى الناصرة. فيروي إيليا سليمان، الفلسطيني اللاجئ – تكرار ؟ بلى، لأن أشكال المنفى عديدة ومتعددة – يروي طوال الفيلم حكاية جديدة معتمدا نفس الأساليب وأناقةً صارمة، حكاية لا تتعلق فقط بالمنطقة التي ولد فيها ولكن بأوضاع عالمنا أيضا، أوعلى الأقل العالم الغربي من خلال مدينتين من المدن الكبرى، واحدة بفرنسا والأخرى بالولايات المتحدة الأمريكية

عالم يتسم بتكاثر الجدران، جدران العار والكراهية التي لا تقلّ واقعية أحيانا عن الجدار الذي نصّبته إسرائيل، ولكنها أيضا جدران باطنية ترسم العقليات وتمثلاتنا للآخر وأحلامنا و تخيلاتنا، جدران الغباء والكسل

شاهد المأساة الفلسطينية Pierrot lunaire فتتعاقب هكذا مشاهد كوميدية لطيفة وساخرة كما يراها بيارو الحالم

يكتفي بالملاحظة أحيانا ويقع في ورطة أحيانا أخرى

إنها كوريغرافيا من النظرات والأجسام، هندسة مضحكة إلى حدّ التراجيديا، حلم مدهش غريب يروي الحقيقة بأساليب

soft وجها آخر للقمع والصوفت cool عجائبية، حقيقةَ عالمٍ ينخره العنف بما فيه العنف المتحضر والمقنن حيث يصبح الكول

إسما آخر للترهيب

فعلى إيقاع الأقنعة والعلامات والتنكر واللوغوات نسقط في الرداءة الخانعة، تلك التي أيّدت العنف وأقرته. يعجز البطل عن الإجابة على السؤال الذي يرمي، في كنف تعاطف الميديا الغبي، إلى تعميق جرحه، « هل أنت أجنبي بأتم معنى الكلمة ؟

« are you a perfect stranger ? »

السخفاء كما يظهرون في أفلام ماك سينت يهرولون هذه المرّة وراء ناشطة فلسطينية  cops يعجز عن الإجابة فيرى الكوبس

لا تقل عنهم غباء

يرجع إلى بيته فيجد أن الشجرة كبرت والعالم تحوّل قليلا ولكن إلى الأسوء. أما خلال سفره فلم ينبس إلا بجملة واحدة. وماذا عساه أن يقول ؟

شئ فينا من فلسطين

نادرا ما تكون السينما قد تمكنت، انطلاقا مما نسميه الشرق الأوسط، من رؤية الواقع مباشرة وهو يتكلس وينهار في كل مكان، نادرا ما تكون قد تمكَّنتْ من رؤيته بمثل هذه الخفّة والفكاهة التي ليست تهذيبا لليأس بقدر ما هي آخر ما تبقى من الذخيرة

يروي شريط « إن شئت كما في السماء« ، خطوة خطوة وبصوت خافت، فكرة الإنتشار العالمي لآليات الرضوخ والتمييز والعنف التي تعاني منها الفلسطينات ويعاني منها الفلسطينيون في أقصى أشكالها منذ واحد وسبعين سنة

إن التناقض بين صفة إيليا سليمان الفلسطيني المحلية وصفة المخرج الكبير العالمية يتجه نحو الذوبان في تحولات العالم الراهن. وهذا خبر غير سار

جان ميشال فرودون ناقد سينمائي، كتب في جريدة لوموند الفرنسية وأدار مجلة كراسات السينما وينشر حاليا مقالات

Slate.fr و  AOC في وسائط اليكترونية مثل 

ألّف أكثر من عشرين كتابا عن السينما وهو أيضا أستاذ بجامعة العلوم السياسية بباريس

http://www.slate.fr/story/184797/cinema-critique-it-must-be-heaven-elia-suleiman-palestine

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page