مهرجان كان 76 ثلاثة أفلام لافتة في المسابقة الرسمية

بقلم الطاهر الشيخاوي

الأعشاب اليابسة لنوري بليج جيلان

واحد من الأفلام المنتظرة جدّا لأهمية صاحبها وكمية الجوائز التي نالها. يمكن القول إن السينمائي التركي لم يخيب انتظار أنصاره. فكان وفيّا لمواضيعه ولأسلوبه. نفَس طويل (أكثر من ثلاث ساعات) شخصيات معقّدة، لا تثير بالضرورة تعاطف المشاهد، لقطات طويلة وجميلة ونقاشات لا تنتهي تكتسي أحيانا بعدا بيزنطيا إلخ

لقطةٌ عريضة تفتتح الشريط، نشاهد في عمقها المدرس الجديد، صمد، وهو يشقّ طريقه بصعوبة على أرض اناطوليا تغطيها ثلوج كثيفة، يتقدم شيئا فشيئا نحو الكاميرا. ديمومة المشهد تحمل منذ البداية دلالة أساسية في عالم جيلان : صعوبة وجود مسلك (في الحياة) ومقامة العقبات لبلوغ الهدف.

يرتبط صمد بتلميذة مراهقة لا تخفي إعجابها به إعجابا يمكن أن نفهمه في ارتباط بسنّ المراهقة. طبعا أوّل ما يتبادر إلى الذهن هو ما تثيره المسألة من جدل نظرا لسجالات العصر حول الموضوع وما يمكن أن ينتج عنه من انحراف أخلاقي، ولكن سرعان ما تنطفئ هذه الأفكار وراء لبس العلاقة، فمن ناحية يبدو الأستاذ بعيدا عن التهمة الموجهة له لمّا نقترب من التلميذة التي لا يخلو تصرّفها من دهاء غريب يتجاوز سنّها، ولكن في الوقت ذاته تأتي من حين إلى حين إشاراتٌ عابرة توحي بأن المربّي غير بريء. هذا اللبس المضاعف هاجس من هواجس المخرج الأساسية، فنلمس نفس الغموض في علاقته بزميلة له تدرس في مؤسسة قريبة من القرية، لا يوليها اهتماما كبيرا بل جرّ زميله، رفيقه في السّكن، إلى الارتباط بها ولكن بمجرد أن بدأ يتحقق مخططه فعل كلّ شيء لإفساده. خيوط الشريط تتظافر كلّها في هذا الاتجاه لا في إيجاد الحلول للقضايا المطروحة وإنما في تعقيدها. قد ينزعج المشاهد من هوس المخرج في نبش عقد الشخصيات ولكن لا بدّ من الإقرار ببراعته

 الورقات الميّتة ل آكي كوريسماكي

بعد نهاية عرض في المسرح لوميار الكبير دام التصفيق الجمهور طويلا في تحية لكوريسماكي الذي كان حاضرا بمعية فريقه وممثليه الرئيسيين. وكان الجمهور محقّا في تحيته الحارة. القصّة بسيطة جدّا

علاقة تتأسس شيئا فشيئا في سياق خانق، داخليا وخارجيا. تأتي أنباء حرب أوكرانيا عبر الراديو. كلما فتحت أنسا الجهاز إلا وجاءها خبر ضحايا الغارات الروسية، أما في هلسنكي فظروف العمل فهي متدنيّة جدّا. الأمر لا يختلف بالنسبة إلى هولابا الذي تسبب إدمانه على الكحول في فقدان شغله. تلتقي الشخصيتان في مقهى ولكن تنتهي العلاقة بمجرّد بدايتها بسبب الكحول. يقرّ عزم هولابا على الحدّ نهائيا من شرب الكحول  وتعود من جديد بعد تعرض هولابا لحادث كاد يؤدي بحياته. القصّة في غاية من البساطة ولكن الفيلم يرتقي إلى أعلى مستويات العمل الفني، قيمته تكمن في طريقة الإخراج وفي الأسلوب الذي اختاره كوستوريكا. مزيج دقيق محكم بين الواقعية والعبثية والهزل في سياق قاتم تخترقه أحيانا أشعة نور الحب. لا خطاب أيديولوجي ثقيل في الشريط بالرغم من أهمية موضوعه الاجتماعي وتمسك كاوريسماكي بقضايا المجتمع. يكاد يكون العمل غارقا في السواد لولا بصيص الحب الذي يلوح في الأفق.

لا جدال في أن « الورقات الميّتة » مهما كانت قرارات لجنة التحكيم سيبقى من الأعمال البارزة في هذه الدورة لمهرجان كان

تشريح سقوط للمخرجة الفرنسية جوستين تريا

من أهم أفلام المسابقة الرسمية أيضا، وهو فيلم آخر من نوع أفلام المحاكم

كنا تعرضنا إلى « محاكمة غولدمان » في افتتاح « أسبوعا السينمائيين »، هنا أيضا تُطرح مسألة البراءة والإدانة ولكن بطريقة مختلفة عن تلك التي تناولتها آليس ديوب وسيدريك كان. إمرأة متهمة بقتل زوجها، وهنا أيضا يكتنف الغموض القضية ويُفتح المجال للحجاج. يجد المشاهد مرّة أخرى نفسه في موقع المحلّف، تختلط عليه الأمور فيتأرجح من موقف إلى موقف. ويرجع السؤال: من الجاني ومن الضحية ؟ لكن لا تقتصر جوستين تريا على البقاء في قاعة المحاكمة، ينفتح الفيلم على فضاءات أخرى يغلب عليها الجانب الأدبي. عندما تختفي الصّورة ماذا يحدث ؟ من أهم مقاطع الشريط هو مشهد الاستماع إلى تسجيل صوتي يقدّمه لسان الدفاع يتضمّن نقاشا حادّا بين الزوجين وينتهي بالعنف. ولكن لا يمكن الجزم بمن عنّف من. هنا يكمن السؤال. في حال حدوث مأساة وفي غياب الصورة، ما العمل ؟ تفتح أبواب البراعة اللغوية والمهارة البلاغية. ثم الجديد في القضية هو الإبن الذي أصيب في وقت سابق بفقدان شيء من النظر. ثالوث يحرك فيلم تريا : الإبداع والمرأة والطفل، ثلاث منطلقات منظورية تصارع قوى المحاكم، ثلاث منطلقات تفتح فضاء سلطة القضاء المغلق وتوسع مجال الخيال السينمائي

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page