مهرجان كان 75، الجزء الثاني : ثلاث درر

بقلم الطاهر الشيخاوي

 

هناك ثلاثة أفلام، في المسابقة الرسمية، أجدر بالإهتمام من البقية في شكلها ومضمونها

ما كنت أظن أن « زمن ارمجدون » لجايمز غراي

« Armageddon time » de James Gray

لن يتحصّل على جائزة من الجوائز. وألاّ تنتبه لجنةُ التحكيم إلى قيمة هذا الشريط.

فعلا، تدور أحداثه في مرحلة من حياة المخرج، في بداية دراسته الإعدادية، أحداث لا تكاد تتجاوز حدود الوسط العائلي، ولكن يخطئُ من يعتقد أن منحى السيرة الذاتية، والسيرة الذاتية موجودة فعلا، حبست الفيلم في حلقة نرجسية لسنا في حاجة إليها والعالم على ما هو عليه. يدخل بول المدرسة الإعدادية ويتعرف على جوني دايفس، فتربطه به علاقة صداقة قوية بالرغم أو بسبب الفوارق الاجتماعية والعرقية الفاصلة بينهما، فجوني ينتمي إلى عائلة أفروأمريكية فقيرة يعيش مع جدّته في ظروف نفهم أنها عسيرة بينما يحظى بول، وهو من عائلة يهودية فرّت من المذابح التي تعرض لها اليهود في شرق أوروبا، بظروف أيسر مع أب حريص على نجاحه وأم حنون عطوف وخاصّة جدّ (انتوني بركينز في أبهى أدواره) يمثل قدوتَه السامية. لم يكن تصرّف بول في المدرسة يتناسب مع طموح الأب، فعوضا عن التركيز على الدرس يقضي بول وقته في الرسم واللهو، ثم والأخطر هو أن علاقته بجون جرّته إلى سلوكيات اعتبر والدُه أنها تهدّد مستقبله. يتدخل الأب بقوّة ويحوّل نجله إلى مدرسة حرّة تابعة لوالد رونالد ريقن الذي يتهيأ حينها إلى رئاسة الولايات المتّحدة.

فقيمة الشريط تكمن هنا، في حكمة الربط بين الحياة الشخصية والحياة العامة، بين تحوّل مصير بول بفعل قرار الأب واللحظة التاريخية التي عرفتها الولايات المتحدة في بداية الثمانينات لما انزلقت نحو المحافظة السياسية وما انجرّ عن ذلك من تداعيات داخلية وخارجية. لا يتعرض الشريط بصورة مباشرة إلى القضايا السياسية، ولكن كلّ تفاصيل حياة بول تحمل علامات هذا التحول السياسي والفكري الذي نعيش الآن تبعاته. هنا تكمن قيمة الشريط، في هذا اللقاء بين مسيرة شخصية مثيرة وسياق اجتماعي ثقافي وسياسي عام. تحملنا السيرة الذاتية إلى متابعة المسار الجمعي فيتجنّب الفيلم السقوط في الانحرافين الذين يهددان الأعمال السينمائية والفنية بصورة عامّة : الانغلاق النرجسي داخل الذات والتعويم الأيديولوجي خارجها. قد لا يكون « زمن ارمجدون » أبرز أعمال دجامز غراي من حيث اكتماله الجمالي ولكنه أهمها من حيث المعاصرة ودرجة تزامنه مع لحظة إخراجه وتواضعه الأنيق

زمن ارمجون لجايمز غراي

في سياق آخر يكتسي  « هي هان » (وهي الترجمة الفرنسية ل »إي أو » العنوان الأصلي) لجرزي كلوسمفسكي أهمية بالغة بالمقارنة مع الأفلام الأخرى المدرجة في المسابقة الرسمية. كنا تعرضنا إلى الشريط في مقال سابق مباشرة بعد مشاهدته. فلا فائدة في تكرار ما كتبنا ولكن، في سياق حديثنا عن دجايمز غراي، لنتوقف قليلا حول مسالة إعادة قراءة الماضي التي طبعت بعض الأعمال.

ف »زمن أرمجدون » لا يحيل مباشرة على فيلم بعينه ولكن كيف الإمتناع عن استحضار شريط فرنسوا تريفو « 400 ضربة » المشهور الذي « يختفي »، في رأينا، وراء عمل غراي ولا يظهر (لا بدّ من الإقرار بذلك) إلاّ بحكم قراءة الفيلم، كنتيجة منطقية لعمليّة التقبّل. اذ هناك مشاهد، خاصّة تلك التي تتعلق بالعزوف عن المؤسسة التربوية والهروب مع الصديق إلى مجالات أخرى هامشية ومناقضة للقوانين المعمول بها كتأكيدٍ، في نطاق الترجمة الذاتية، على الرغبة في التعبير خارج الأطر المسموح بها، وهو ما حقّقه تروفو وغراي لمّا أصبحا سينمائيين. يلتقي المخرجان هنا، وإن كان بطريقتين مختلفتين، في تسجيل تغيّر هام في السياق العام اقتضى أساليبَ أخرى في الـتعبير السينمائي، استقا المخرجان مشروعيته في لحظة من لحظات حياتهما الماضية.

في حال جرزي كلوسمفسكي، الإحالة واضحة وصريحة. فيلم روبير بريسون

Au hasard Balthazar

لم يكن بالألوان، والسرد كان بسيطا خالصا من كل المؤثرات، مقتضبا، قريبا من التجريد، حادّا يستقي جماليته من الفوتغرافيا، يرمي إلى تثبيت حقيقة الأشياء من خلال تصويرها، بينما جاءت طريقة كلوسمفسكي مختلفة تماما، تعتمد أساسا على الألوان لا فقط مسايرةً لتطوّر تقنيات السّينما، ولكن كأداة للخطاب الفكري خاصّة منها الألوان الحارّة. وكذلك الشأن بالنسبة إلى الموسيقى بينما جاء السرد متقطعا، منقلبا، ملتويا لا يبالي بالتسلسل، معتمدا مونتاجا غاضبا يحاكي، بطريقة ما، مسار المخرج ذاته.

الشريط الثالث الذي يُعدّ بدون شكّ من أبرز ما جاء في المسابقة الرسمية هو « باسيفكسيون » لألبير سيرا.

Pacifiction

 فيلم راديكالي سياسي لا بالمعنى السطحي للكلمة أي أنه لا يكتفي بملئ محتواه بموضوع سياسي في قالب قصّة محبوكة السيناريو، واضحة المعالم، يفضح فيها التسلسلُ الدرامي الخفايا الخبيثة للحكاّم ويؤكّد فيها عدالة قضية المظلومين. « باسيفكسيون » أبعد ما يكون عن هذه البضاعة الرديئة. لنكن واضحين : قوّة الفيلم في هشاشته أي في الدفع بالسينما إلى أبعد حدود مكوناته لتصوير « موضوعه » وهو بالتحديد موضوع التمثيل السياسي، تمثيل السلطة السياسية في أحلك مظاهرها. القصّة بعجالة : المندوب العام الفرنسي بتاهيتي يتجوّل من مكان إلى مكان، يتحدث مع هذا ومع ذاك كأنما يرغب في معرفة شيء ما. علما وأن اشاعات انتشرت حول محاولات جديدة لتجربة نووية. يلتقي بعدد من الشّخصيات الهامّة التي لها علاقة بالسّياسة والأعمال، شخصيات رسمية وأخرى غير رسمية، بعضها تابعة للمؤسّسة العسكرية وأخرى لمؤسّسات مدنية، من تاهيتي ومن الخارج، موالين لفرنسا ومناهضين لها. يبدو أننا أمام قصّة بوليسية-سياسية مثيرة لكن لا يمكن الجزم تماما بذلك لأن الخطّ الدرامي رخو، هشّ، وهامش الغموض كبير. يسود الفيلم جوّ اكزوتيكي نيو كولونيالي لا تستقرّ فيه أفكارنا، نبحث فيه عن معنى ولا نكاد ندركه، فلا يبقى لنا بدّ إلا أن نترك أنفسنا تتنقل مع المندوب السامي في مزيج من التساؤل السياسي والحلم اليقظ. عندما نسلّم أمرنا للمجهول ونتخلّى عن البحث عن خطّ درامي محدّد، ندرك حينها أن الشخصية الرئيسية هي أيضا ممثل مشهور بنوا ماجيمال بصدد التمثيل وأن السينمائي ألبير سيرا اختار أيضا أن يُصوّره وهو يمثّل. فنرى شخصيةَ الممثل الرسمي للحكومة الفرنسية وشخصَ الممثل ماجيمال في جسد واحد، يتحول سؤالنا البوليسي السياسي إلى تساؤل حول معنى التمثيل في بعديه السياسي والفني في الوقت ذاته، وينفتح الفيلم حينها على احتمالات دلالية لا متناهية، تقودنا تفاصيل دقيقة يقدّمها المخرج من حين إلى آخر في رحلة خيالية وفكرية ممتعة للغاية.

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page