مهرجان كان 75، الجزء الثالث : ثلاث أفلام أخرى جديرة بالإهتمام

بقلم الطاهر الشيخاوي

يمكن أن ننطلق من معطى يتعلق بالبرمجة : « شوينغ أب » للمخرجة الأمريكية كيلي رايشارد عُرض في اليوم الأخير للمهرجان، لماذا ؟ محاولة الجواب عن هذا السؤال قد تجرّنا إلى تخمينات تُبعدنا عن المُهم وان كان قبول مخرجة من حجم كيلي رايشارد لأوّل مرّة في المسابقة الرسمية يحمل أكثر من دلالة على اختيارات أهم تظاهرة سينمائية في العالم. لكن دعنا من هذا…

 من لا يعرف كيلي رايشارد، واحدة من أهم السينمائيات المستقلة الأمريكية قد يجد صعوبة في الولوج  إلى عالم « شوينغ آب » خاصّة بعد الإرهاق الناجم عن عشرة أيام من الفرجة المكثفة. الفيلم يرافق شخصية ليزي، نحّاتة تفصلها أيام معدودات على تاريخ عرض أعمالها. يضعها قُربُ تاريخ العرض في حالة من الضيق النفسي نفهم أنه يهيمن على كلّ تصرفاتها. ولكن فهمنا هذا لا ندركه إدراكا ناتجا عن سردٍ يعتمد السببية السيكولوجية، بل قد لا ندركه أصلا. لأن أسلوب الإخراج لا يرتكز على علامات القلق التي نفترض أن تكون بادية بالضرورة على وجه بطلتنا. وجهة النظر التي اختارتها كيلي رايشارد، كعادتها، بعيدة كلّ البعد عن استراتيجيات السرد المثيرة والتي تضيّق على المشاهد آفاق تقبّل الأحداث لتضعه على سكّة التحولات الدرامية حسب نسق ناجع. إختيارها مغاير تماما، وفي غاية من الموضوعية المادّية. الزمن يخضع لمجموعة من الأحداث البسيطة جدّا، لا علاقة لها بالنشاط الرئيسي للفنانة. سخّان ماء معطل لم تتوصل ليزي إلى حمل صاحبة المحل على إصلاحه، أخٌ في حاجة إلى إعانة مستمرّة، ثم حمامة اختطفها القط وكاد يودي بحياتها فتكفلت بمعالجتها، وأشياء أخرى عديدة. صحيح أن ليزي تنتمي إلى وسط اجتماعي متواضع جدّا ولكن المسألة تتعلق بالأساس بنظرة كيلي رايشارد للواقع عموما فلا يمكن فهم الشخصية الرئيسية دون الوقوف وبدقّة وعناية على تلك الأحداث البسيطة الجزئية « التافهة » التي لا تعيرها السينما السائدة أيَّ اهتمام والتي تؤثث للواقع وتؤسّس له

 

Showing up

.

الفيلم الثاني وهو أيضا في المسابقة الرسمية يأتي من إيطاليا، من إخراج ماريو مارتوني. « نستالجيا » يروي قصّة فيليتشي لاسكو، يرجع بعد سنوات عديدة إلى مسقط رأسه، مدينة نابولي، حيث تدور أحداث الفيلم. يبدأ الشريط مع رجوعه، نعلم أنه استقر بمصر، حيث اعتنق الإسلام وتزوّج بمصرية. أربعون سنة انقضت منذ رحيله، كل هذه الأحداث مهمة طبعا خاصة لمّا نكتشف أن السبب الرئيسي لمغادرة بلده هو تورطه في جريمة ارتكبها أحد أصدقائه الذي أصبح منذ ذلك الحين مافيوزيا خطيرا. كلّ هذه الأحداث مهمّة، ونهايتها كذلك، ولكن الأهم هو ما يحدث عند اتّصاله من جديد بالمدينة. إعادة اكتشاف نابولي فرصة استغلها المخرج لمساءلة المدينة وإعادة اكتشاف الذات. لا نكاد نعلم شيئا عن حياته السابقة في مصر ولكن السؤال هو ماذا يحدث عند الرجوع، لمّا ينقطع التواصل وتفقد الذاكرة ذكرى المكان الذي أتينا منه ثم تعود الأشياء شيئا فشيئا و »تلتقي » الصورة بواقعها ؟ مسألة سينمائية وإيطالية وإنسانية في ذات الوقت. الطريقة التي صوّر بها مارتوني بحث فيليتشي عن مسكن والدته في بداية الفيلم مثيرة جدّا : هناك غموض، نوع من الضياع، تحرك في الفضاء مفارقي، كما لو كنتَ تتأكد من تطابق ما رسم في ذهنك من المكان والمكان ذاته. تغيّرَ الشّخص طيلة غيابه فأصبح الأنا آخَرا، اختلطت الذاتُ بذات أخرى (عربية إسلامية في قضية الحال وليست أمريكية كما هو الحال غالبا)، التجربة ليست غريبة على الإيطاليين بالتحديد مع أنها أصبحت الآن تتكرر في العديد من مناطق العالم. ما زاد المسألة خطورة هو فعلا الشعور بالذنب وهي القيمة المضافة الدرامية ولكن تبقى القضية الأساسية هي قدرة مارتوني بطريقته الخاصّة على اختياره التحرك في الهامش الفاصل بين التعرّف والاكتشاف،

Le film se déploie dans cet espace incertain entre la reconnaissance et la découverte.

 بين الالتقاء من جديد ولقاء الجديد، قدرته على طرح قضية معرفية أساسية على محكّ السينما التي ربما تجسّد هذه المفارقة.

نستالجيا

الفيلم الثالث لا يتميّز بجرأته الشكلية، أي خلافا لشريط كيلي رايتشارد، لا يشتغل على خرق قوانين اللعبة السينمائية، بل لا يختلف في صياغته عن الأفلام الكلاسيكية، السردية، الواقعية، وقد يُفهم على أنه يقتصر على إعادة إنتاج المنوال السائد في الحكي، وهو ما جعل البعض لا يرى تفرّد العمل.

الواقع أن جمال « ليلى وإخوانها » وعمقه يكمنان في خفايا الفيلم وقدرة سعيد رستائي على تطويع اللغة السينمائية الكلاسيكية في خدمة موضوعه. تحتلّ ليلى في الشريط المكانة الرئيسية، تُحرّك خيوط اللعبة لا بفعل دهائها أو قوةٍ شحَنها المخرجُ اصطناعيا في الشخصية، وإنما بفضل دفعٍ إرادي صارمٍ مُكوّن لشخصيتها، يتعارض مع (ويُكمّل) عدم قدرة أخوتها الأربعة على تحدي الأب المتقدم في السّن. أب لا همَّ له سوى شخصه، حتّى أنّه مستعد لإهدار كل ما جمعه من مال للحصول على لقب أب العائلة الكبرى بعد وفاة ابن عمه صاحب اللقب. المسألة عائلية وأكثر من ذلك : من ناحية هناك الأب ورغبته القوية في بلوغ مرتبة رئيس العائلة الشرفية وفي المقابل هناك البنت ورغبتها أقوى في إعانة إخوتها وبينهما الإخوة الأربعة الذين مع اختلافهم (اختلاف تألّق المخرج في نَحته) لا يملكون القدرة على مجابهة الأب خوفا منه وخوفا عليه. براعة مذهلة في قيادة هذا الصراع من ناحية ثم، وهو الأهم، في الإشتغال الذكي من ناحية أخرى على الأبعاد الجمعية، والثقافية والسياسية للقصّة العائلية. بقدر تجذرها في الواقع الإيراني، اكتست القصّة بعدا كونيّا مدهشا. ربطُ الحميمي بالاجتماعي والفردي بالمجموعة والعائلي بالوطني ليس بالأمر الهين ويمكن الجزم إن سعيد رستائي توفق أيمّا توفيق في ذلك.

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page