لقشة من الدنيا لنصر الدين السهيلي أو لُبس الرغبة والقساوة
لا شك أن ميزة شريط « لقشة من الدنيا » الأولي هي أنه سمح بالظهور لفئة اجتماعية قد لا نتخيل امكانية وجودها أصلا، ومهما يكن من أمر، أتخلينا أم لم نتخيل وجودها، ظهورها للعيان أمر في غاية من الأهمية، لأن التخيل شيئ والمشاهدة شيئ آخر. لا بدّ من التأكيد أولا على قوة هذا الفعل : تصوير كائنات بشرية لا تقلّ إنسانية عني وعنك، تعيش – إن صحت العبارة – في مثل تلك الظروف. الفعل قوي جدا وذو دلالة سياسية فائقة لم يكن بالإمكان القيام به قبل 14 جانفي وأصبح ممكنا بعد ذلك، ولكن القوة التي تم بها أكدت لنا مدى هامش الحرية التي اكتسبناها. فلا شك أن مجال الفيلم الوثائقي قد زاد اتساعا بعد « لقشة من الدنيا« ، لأن الإقرار النظري بحرية التعبير لا يكفي، وإن كنت لا أستبعد وجود من يضع ذلك في باب الِانفلاتات. اذ تم « الفعل » فعلا ولم ينفك يتبين لنا طوال العرض. فلكل صورة نصيبها من المفاجأة. تواصل الشريط كما بدأ وانتهى كما تواصل : إذ بعد تعاقب الأسماء وبمجرد اختفاء العنوان في عتمة الشاشة وجد المشاهد نفسه وسط عالم لا يقل عتمة، في خضم نقاش عنيف بين شخصيتين نفهم سريعا أنهما الشخصيتان الرئيسيتان. وما يثير دهشتنا هو، في الوقت نفسه، محتوى ما نشاهده « كيف يمكن ان يحدث ذلك ؟ » وقدرة الممثل على تصويره » كيف تمكن من القيام بذلك ؟« ، في الوقت نفسه، دون التمييز بين المادة المصورة وكيفية تصويرها. إذ لا ندري ان كان وقعُ ما نشاهده في نفوسنا مردّه قوة الواقع أم قوة تصويره. لا شك أن ذلك راجع إلى تجنب التقطيع وطول اللقطات الذي كان أبعد ما يكون عن اعتباطية الترف والتباهي الشكلاني. وفي كل الحالات إن اللبس الذي انتاب تلقينا للفيلم هو أكبر دليل على قوته
لأن تصوير مثل هؤلاء المهمشين وهذه الأماكن في السينما أو حتى في التلفيزيون كان أمرا ممكنا تحت نظام بن علي، فمجرد وضعهم في إطار الصورة لا يعني شيئا في حدّ ذاته. هنا تكمن ميزة الفيلم الثانية، وهي ميزة لها علاقة بكيفية الإخراج التي تجنبت فخين : لم يسعَ المخرج إلى ابهار الجمهور كما أبى أن ينبهر بالشخصيات، فبالرغم من ثباتها ودقتها لم تكن اختيارات الإخراج بارزة بل كادت تكون خفية، ففي تلك المفارقة تكمن قيمة العمل. تجنب الفيلم الخطاب الدعائي و النرجسي وابتعد عن الاستعراض الفكري و الشكلاني، فلم يكن الأخراج هدفا لا يحيل إلا على ذاته ولم يجعل من موضوعه المفترض، أي معانات الشعب، مجرد تعلة لا أكثر
في الحقيقة، يصعب تحديد ما قام به المخرج وما لم يقم به – وهو أصعب – لبلوغ تلك النتيجة. ولكن وجب التأكيد على أمر أساسي وهو طبيعة العلاقة التي أصرّ على أن تربطه بالشخصيات و بلطفي على وجه الخصوص. اصرار لا يخلو من مخاطر، فخشينا كانت أن يسقط الفيلم في التكرار لأن إدراك شخصية لطفي يبدو سهلا يسيرا، فهو لا يملك، مبدئيا، من « الثرى » السيكولوجي ما يجعله يتطور كشخصية رئيسية وفق نواميس الكتابة السينمائية المحكمة والمثيرة. فماذا يمكن أن يُحكى سينمائيا عن شخص في هذه الدرجة من الفقر المادي والمعنوي ؟ ومع ذلك اختار المخرج أن يرافقه من بداية الفيلم إلى آخره بدون هوادة، لأن الأمر لا يتعلق ببناء خطاب، ولكنه لم يترك أيضا أي مجال للشفقة كبديل كلاسيكي لانعدام التفكير. ثم القول بأن لطفي لا يملك كثافة سيكولوجية أمر غير صحيح بل لا معنى له. فغاية الكامرا هي بالتحديد تسجيل هذا الدمار النفسي، أي ما يبقي عندما يفقد المرء كل شيئ، المال والناس، عندما ينعدم دفء الوجود بين الأهل ووسط المجتمع، فالمهم ليس ما لا نملك، المهم هو ما تبقى لدينا عندما نفقد الأشياء كلها ما عدا أثر اللاشيئ على الجسد،، لا أعني الأثر المادي والظاهر، أثر المرض والجوع والعذاب والعنف، ولكن ما تبقى لمّا يزول كل شيئ. لأن ما نصوره لما نصور الفقراء والبؤساء والمهمشين هو، في غالب الأحيان، الفقر والبؤس والتهميش أي، بصورة عكسية، الغنى والسعادة والرفاهة. إلا أننا في « لقشة من الدنيا » نجد أنفسنا أمام أشياء أساسية عصيبة لاطاقة لنا بها، أمام البعد الانساني المحض الذي يعسر إظهاره عندما تكون النظرة مكبلة بالاعتبارات الأخلاقوية والمسببات السوسيولوجية والسيكولوجية
ثم القول بأن لطفي لا يملك شيئا لا معنى له. وإن كان يعني شيئا فهو عدم إدراك أمر أساسي : الرغبة، رغبة الحب التي لا يقتصر لطفي على نقلها على شاكلة الشخصيات الحاملة للمشاعر والأفكار، لأنه ليس إلا رغبة ولم يعد أن يكون إلا ذلك، رغبة صافية عارية من كل شيء. لذلك لا مجال للحديث عن الأخلاق هنا، و اعتبار الرأي العام. في حديثه عن رزوقة، يقول لطفي إنه بمثابة أبيه، يقول ذلك مرتين على الأقل، مرة أمام الكاميرا ومرة للطبيب، وهو لا يسعى إلى اخفاء طبيعة العلاقة التي تربطه بصديقه. فرزوقة فعلا هو الأب والأخ والعشيق الذي تسبب سجنُه بعض الأسابيع في عودته إلى الإدمان. قد نعتبر أن تصرف رزوقه تجاهه يحتوي على نوع من الصلف والقسوة، ولكن ما كان ذلك موضوع الفيلم، اذ لم يخضع تبادل المشاعر بين الشخصيتين للمتاجرة والإبتزاز، على الأقل هكذا تراها كامرا نصر الدين السهيلي، فلا وجود لرهان سوسيلوجي في الفيلم كخطاب، وإذا كان البعد الاجتماعي موجودا في المادة نفسها فهو منعدم في معالجتها. فالفيلم لا يختزل تعلق لطفي برزوقة في تبعيته له، كما لا يقتصر فهم قساوة ظروفهما في علاقة سببية مع الآخرين. لو كان الأمر كذلك لانحدر العمل إلى مستوى من السذاجة هو بعيد كل البعد عنها. لذلك كانت الرغبة محضة وتجلت في شكل فظ قاس، في لُبس جوهري. فلم يُلغ العنفُ العطفَ بل كان عنصرا من عناصر التواصل بين الشخصيتين، لم يُخف قوة الروابط بينهما بل أظهرها، لأن المخرج لم يقدم العنف كاقتراح للتعبير عن الحب، فمرة أخرى لا دخل للأخلاق هنا، بل عرَضه كواقع إنساني وليس كعقاب إلاهي أو حتمية اجتماعية مسلطة على الإنسان. تجنب الفيلم الانزلاق الميطافيزيقي نحو الحكي الرمزي والسقوط البرجوازي في الاِستعارة، فلم يكن تصويرا للواقع بقدر ما كان تقديما مباشرا له دون نسخه او إعادة إنتاجه، لذلك أبى نصر الدين السهيلي أن يخرج من دائرة شخصياته إلا نادرا كما تعددت المشاهد الليلية القاتمة مما قلص مجال انعكاس الرؤى. ثم تجنب المخرج في المشاهد الخارجية الإحالات التي من شأنها أن تعكس النظر وتسمح بالمقارنة مع فئات اجتماعية أخرى من قبيل « إنه حقا مختلف عنا« ، لذلك كانت دهشتنا كبيرة أمام المشاهد الحضرية (في مدينة تونس) والساحلية (مدينة قربس) والتي تبدو بعيدة غير مبالية بما يجري، فكأنها اكتفت بالوجود، لا علاقة منطقية لها بالدراما. يكفي التأمل في جمال مشهد السباحة وفي الصفاوة التي صُور بها، وبالتالي فيما تحيل إليه، لندرك أننا أمام قصّة حب غارقة في أعماق سرديات العصور القديمة