كتاب الصورة لجان لوك غودار

 يطول الحديث عن غودار والأفضل أن نعود لاحقا للدخول في تفاصيل الفيلم

ولكن من الضروري ابداء بعض الملاحظات

طبعا أي فيلم لغودار يمثل حدثا في حد ذاته (أعني في حد الحدث ذاته) لأن تقييم العمل بعينه مسألة أخرى تقتضي حيزا زمنيا أطول وسياقا آخر. لأننا في قضية الحال نتعامل مع خرافة لا فقط لأن الرجل ارتقى إلى مستوى من الشهرة يجعل من الصعب عدم اعتبار كل ما كتب عنه ايجابا أوسلبا، وذلك في كل مناسبة فتختلط الأمور اختلاطا منطقيا، ثم، منذ انطلاقته في أواخر خمسينات القرن الماضي كان غودار، خلافا لأصدقائه في الموجة الجديدة، واعيا وعيا حادا بصورته لدى متابعي الشأن السينمائي، فكان في الوقت ذاته يصنع أفلامه ويصنع خرافته كمبدع، أي أنه يساهم بقدر كبير في رسم صورته

وطبعا كان الأمر كذلك أيضا هذه السنة تماما كما كان منذ سنوات مع « وداعا لللغة« 

لم يشارك غودار بنفسه في اختيار صورة جان بول بلماندو هو يقبل أنّا كارينا في شريط« بيارو المعتوه« التي رافقت هذه الدورة، ولكن الصورة زادت في تخييم شبحه على الدورة بأسرها بعد الإعلان على برمجة فيلمه.ثم كبر السؤال « هل سيأتي جان لوك غودار أم لا ؟ » إلى أن جاء الجواب واكتفى بلقاء صحفي عن طريق الفيديو. كل هذا إذن لا يمكن ألا يدخل في قراءتنا للفيلم

فكان الحدث ولا زال

أربع حصص برمجت لعرض الفيلم ولم يتوقف الإقبال عليها، فلم ألاحظ شخصيا من غادر العرض قبل انتهائه بقاعة لوميير   التي تحتوي على 2300 مقعد إلا القليل النادر

كتاب الصورة هو عنوان الفيلم، ويمكن الإنطلاق من هنا، من تداخل المكتوب والمصور، هاجس أساسي في عالم غودار منذ بداياته لمّا شرع في الكتابة عن السينما. كان يكتب عن الأفلام كسينمائي، يعلق على تلك التي يحبها كما لو كانت من صنعه وعن تلك التي ينتقدها كما لا يرغب في صناعتها. ثم منذ انتقاله إلى الإخراج لم ينفك يشتغل على اللغة، بمعنى اللسان، في أفلامه وحولها وعنها إلى أن وصل به الأمر إلى صياغة نص تاريخي بالصورة، هذا فضلا عن استخدامه لنصوص العديد من الكتاب والفلاسفة والمؤرخين استخداما تضاعف من فيلم إلى فلم حتى أصبح الإستشهاد أساسيا في عمله، فتحول من الإشارة و التعليق إلى مادة في حد ذاتها مؤسسة لنسيج الفيلم. يكاد يفتقد « كتاب الصورة » لنص خاص بغودار، فكله استشهادات، لفظا وصورة، وبات من العبث تحديد الصور والجمل المستعارة والتعرف على هوية مخرجيها وكتابها، والواقع أن دلالات الفيلم ليست في الإضافات التي تدخلها أفكار الآخرين على فكر غودار أو تفاعل فكره مع الأفكار المستعارة بل في الدلالات التي « ينتجه » تركيب هذا الكم الهائل من الإستشهادات. يعني أن المونطاج أضحى المولّد الرئيسي للنص

وهذا ما حدث بالضبط في « كتاب الصورة« ، فيبدأ بالتأكيد على أهمية اليد والأصابع (خمسة أصابع، خمسة حواس مع الملاحظ أن الفيلم متكون من خمسة أجزاء)، وتصبح اليد هنا العضو المفكر، مع العلم أن الفيلم خال أو يكاد من التصوير  فاقتصر غودار على المونطاج باعتبار أن أكثر من تسعين بالمائة من الصورة مأخوذة من أفلام أو لوحات وصور من اليوتوب سابقة،

ولكن يجب فهم المونطاج على أنه يتجاوز بكثير عملية البناء السردي أو التسلسل المنطقي أو حتى الإستعارة، ،فهو يتعدى ذلك بكثير ليصبح ضربا من التفكيك اللامتناهي، تفكيك الصورة أو الكلمة من سياقها وهذا أساسي فيفقد الاستشهاد ما يرتبط به جوهريا أي يفقد تحديد هوية صاحبه والفيلم أو الكتاب المستقى منه. كما يسعى غودار بكل جهده إلى ابعاد الاستشهاد من سياقه وهو ما يضني القارئ المتفرج فتتحول الصور إلى عينات حرة مستقلة بذاتها لا تلتسق بصور أخرى لأداء معنى جديد، بل تظل تدور في فضاء مجهول تسبقها الظلمة وتليها الظلمة. فمن الغريب أن تاتي الصور كلها غير مكتملة بل مبتورة لا بداية لها ولا نهاية، منفصلة عن ذاتها وعن سياقها.

فماذا يحدث إذن ؟

نحن أمام محاولة تتمثل في الوقت ذاته في تقريب الصور من بعضها البعض وابعادها عن بعضها البعض، ما يؤدي بنا إلى كوكبة من المعاني ذات بنية شجرية كلها احالات أقرب للموسيقى والفنون التشكيلية منها إلى خطية السرد المكتوب

يحمل الجزء الأول عنوان ريمايك ثم يأتي لاحقا على شاكلة أخرى تحيل إلى الشعر فجاء الفلم كأنما هو نص مقفى

remakes/rim(ak)es

وتصبح الصور والكلمات بمثابة ألوان تدور في النهاية حول موضوع سياسي أخلاقي يتعلق بمسؤولية الغرب في مايجري من حروب وعنف

لذلك تعلق الجزء الخامس والأخير كله بالعالم العربي. عرفنا غودار مهتما بالشرق الأوسط منذ مدة وبفلسطين خصوصا، و زاد انشغاله بذلك بعدما حدث من تقلبات في العالم العربي منذ 2010 واحتلت بالطبع تونس مكانة هامة جدا في الشريط.

فنشاهد مقاطع من أعمال عديدة ك« باب الحديد » ليوسف شاهين و« الليل » لمحمد ملص و« ألف شهر » لفوزي بن سعيدي و« تونبوكتو » لعبد الرحمان سيساكو و « الهائمون » للناصر خمير و« صمت القصور » و« موسم الرجال » لمفيدة التلاتلي وعلى « حلة عيني » لليلى بوزيد وأغاني لأم كلثوم والهادي الجويني، ولكن النص الذي أخذ أكبر حيز من الاستشهادات هو قصّة للروائي المصري ألبير قصيري « طموح في الصحراء

ولكن، مرة أخرى، لاتحيل الصور على صانعيها ولا على السياقات التي نشأت فيها ولكنها تتناغم كالقوافي مع ألوان الفكرة الاساسية، جنة العرب المفقودة

طبعا يشعر المتفرج العربي بنوع من النخوة لما يكتشف هذا الزخم من الإيحالات على التراث المرئي والسمعي والسينمائي وحتى الفكري (من خلال مقولات لادوارد سعيد الذي يكنّ له غودار احتراما كبيرا )في عمل لواحد من أبرز المخرجين العالميين، وذلك في حدّ ذاته طبعا أمر في غاية من الأهمية، ولكن الأهم هو الاشتغال الفكري الذي يقترحه المخرج من خلال مقاربته السينمائية لأن الموضوع ليس الحضارة العربية الاسلامية ولكن التفكيك النقدي اللاذع للخطاب الغربي والعنف الذي يتعرض له العرب اللأن،

والأهم من ذلك كله هو الإقتراح السنمائي لجان لوك غودار للصور والتمثلات. في حديثه مع الصحافيين اليوم عبر السكايب كرر أكثر من مرة مقولة أن مهمة السينما هي الا تَفعل ما يُقال وإنما ان تَقول ما لا يُفعل

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page