كان 72 خواطر أولية عن السينما العربية

بقلم الطاهر الشيخاوي

بابيشا » لمنية مدور »

لا مفر من الحديث عن الأفلام العربية في مهرجان كان. التساؤل مشروع بل طبيعي بالنسبة إلى الصحفي أو الناقد القادم من هذه الربوع. ولكن المسألة معقدة وتقتضي اختيارا واضحا في المقاربة : إما أن نتحدث عن الأفلام التي تم اقتناؤها في ذاتها وإما أن نتناول موضوع المهرجان وسياساته في اختيار هذه الأفلام بالذات، وإما أن نتعرض إلى المسألتين معا وهذا مشروع أيضا. ولكن يجب الفصل بين المسألتين حتى لا يختلط الأمر في ذهن القارئ، وهذا يحتم الوضوح والدقة والإنصاف. ولكن مع بداهة الأمر، كثيرا ما يسقط النقاد و الصحفيون في الخلط بين هذه المستويات لسبب عميق وثقيل في تقديري وهو وضع السينما في بلداننا. فقلة الإنتاج وصعوبة التوزيع تولّـدان شعورا بالغبن والحرمان يتضاعف بفعل وجود الناقد في سياقٍ (فرنسا عامّة ومهرجان كان خاصّة) يتسم، أقل ما يقال عنه، بالوفرة والرخاء. يتضخم الشعور بالحرمان فيؤثر أيما تأثير على تقييم الأعمال ويولّد المبالغة في هذا الإتجاه أو في ذلك، والغالب هو التقليل من قيمة العمل إذا اعتبرنا أن اختياره غير موفق. من هنا تأتي صعوبة التمييز وضرورة تجنب تأثير ذلك الاضطراب الناتج، في جانب كبير منه، عن مخلفات الأستعمار. كلنا عرضة لهذه التأثيرات، فلمواجهة ما نفترض أنه حيف (رفع عمل ما إلى مرتبة عالية ببرمجته في قسم هام من المهرجان) نلتجئ إلى حيف مضاد (التقليل من قيمته بنفس القدر) لترجيح الكفة

كل ما في الأمر هو أن لكل مهرجان « سياسته » التي يجب فهمها وعدم اعتبار مبدأ اختيار الأفلام مبنيا على دقة قائقة ودراسة معمقة وحرص على اعتبار الجهد أو الإضافة الفنية، أي لا يجب التقليل من هامش الاعطباطية والجهل والذاتية لدى لجان الإقتناء

أردنا التأكيد على هذه الإعتبارات لأن عدد الأفلام العربية مرتفع نسبيا هذه السنة وخاصة المغاربية منها

لا شك في أن هناك حرص على تمثيلية بعض البلدان كالجزائر وتونس والمغرب لأسباب طبعا لها علاقة وثيقة بالتحولات التي تشهدها هذه البلدان، حرصٌ بدأ يتجلى بأكثر وضوح في خطاب إدارة المهرجان من خلال تعليقات تياري فريمو المندوب العام. الملاحظ هو صعوبة الإدلاء الواضح بهذه الإختيارات لأن المهرجان متشبث بصورته « الثقافية » وادعائه الحيادية الجيوسياسية خلافا للمهرجانات الأخرى وهذا يزيد من ارباك المتابع

ربما كان شريط « بابيشا » للمخرجة الجزائرية منية مدور مثالا حيا لهذه القضايا فهو فعلا جدير بالإهتمام والدراسة. قد يطول الحديث فيه ولكن لننطلق من تلقي جمهور المهرجان للفيلم. دام التصفيق قرابة عشر دقائق اثر العرض. ترحيب نادر، يعني أن برمجة العمل استجابت لحاجة علما وأن الحضور محدد سوسيولوجيا. وهذا الترحيب يعبر عن شعور المشاهدين تجاه شريط استجاب بقوة لانتظاراتهم

المخرجة امرأة والشخصيات الرئيسية نساء، طالبات يسكن في حي جامعي في التسعينات. أهمهن نجمة، طبعا لا يخفى على أحد أن الأسم يذكرنا برواية كاتب ياسين المشهورة إن لم نقل أنه يحيل إليهما . الملاحظة الأولى هي أن هناك نزعة جديدة (ضعيفة في تونس والمغرب) لدى المخرجين الشبان الجزائريين كنا أشرنا إليها سابقا تتمثل في الإحالة على السابقين كرغبة في الانخراط في تاريخ واحد وربط حلقات فككتها الأزمات، وهي بينة عند طارق تقية ( في اشارته لفاروق بلوفة ) ولمين عمار خوجة (في تحيته لمحمد زينات) إلخ وإن كانت في هذه الحال تقف عند مجرد التحية ولا ترقى إلى المساهمة في هيكلة الفيلم. علما وان منية مدور هي ابنة السينمائي الراحل عز الدين مدور وكانت اخرجت مؤخرا شريطا عن السينما الجزائرية

الملاحظة الثانية هي أن المرحلة التي تدور فيها أحداث الشريط لا تزال تمثل خزانا لعدد من الأعمال لما تكتسيها من خطورة وهذا أيضا لاحظناه لدى عدد من المخرجين وهو أمر عادي وطبيعي، الصعوبة تكمن في تضمين القرائة التاريخية في زمن انتاج العمل خاصة وهو نسق سريع التحول

الملاحظة الثالثة تتعلق بنسبة النساء المخرجات الذي لا يزال في الجزائر محدودا بالرغم من قيمة اللاتي يشتغلن الآن

كل هذا أعطى للعمل قابلية أكبر للرؤية في ظل تنامي الأفلام المتعلقة بالمجموعات النسائية ك« عصابة البنات » لسيلين سياما الذي افتتح هنا بكان نصف شهر المخرجين سنة 2014 وعرض في مهرجانات عديدة هامة كالبندقية وتورنتو وسان سيباستيان وفيلادلفيا ولندن ومنريال وريو دي جانيرو وتحصل على العديد من الجوائز

هذه مسائل سوسيولوجية هامة طبعا جعلت عددا من المهرجانات تتبنى مبدأ التناصف كما أكده تييري فريمو نفسه في تقديمه لعدد من الأفلام، زد على ذلك الأحداث الجارية الآن بالجزائر، ما دفع فريمو إلى اللجوء إلى نوع من الاستفزاز قائلا إنه يرغب في اثارة حادثة ديبلوماسية. طبعا جاءت العبارة في شكل هزلي ولكن دلالاتها كبيرة

بقي أن الفيلم اختفى كعمل فني وراء كل هذه الإعتبارات فإذا توقفنا قليلا عند الكتابة السينمائية وتمعنا في وجهة النظر كما تجلت من خلال استعمال الأساليب الفنية نلاحظ بسهولة نقائص كبيرة في الشريط لا فقط من حيث السيناريو الذي انبنى أساسا على فكرة بسيطة بل ساذجة وهي أنه كلما تعرضت نجمة لهجمة إلا وزادت عزيمتها والأمر يتكرر بنفس الطريقة في الشريط، كما غابت تماما الخلفية الإجتماعية والسياسية المعقدة التي من شأنها أن ترسخ الفيلم في أرضية صلبة وتعطيه العمق اللازم ثم كانت الشخصيات سطحية تقتصر رغبتها على مسألة واحدة مما جعل موضوع الرغبة بالتحديد محدودا جدا، ثم ما يزيد في ارباك القارئ المتعمق هو استعمال اللغة الفرنسية في الفيلم الذي لا يمكن لأحد أن يشكك في واقعيته ولكنه كان غامضا بينما كان يمكن ان يكون عنصرا أساسيا في قراءة نفسية الشخصيات وابراز تناقضات المجتمع

وربما اهم شيء هو أن الفيلم لم يأخذ في الاعتبار كل ما أنجز من أعمال مغاربية في هذا الصدد والأمر غريب خاصة كما ذكرنا أن منية مدور تولي اهتماما بتاريخ السينما المعاصرة في بلادها

هذا لا يعنى أن الشريط تافه أو خال من الميزات، فأبرز ميزته هو توفق المخرجة في شحن شخصياتها بطاقة قوية لافتة وممتعة جعلتهن تخترقن فضاء الفيلم اختراقا كله حيوية

ولنا عودة للفيلم بعد مشاهدتنا للأفلام العربية الأخرى

 

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page