في قسم « نظرة ما » « وداعا جوليا » مفاجأة سارّة من السودان
بقلم الطاهر الشيخاوي
لا يمكن من الآن فصاعدا تناسي محمد كردفاني ؟ شريط طويل أوّل، مشاركة غير مسبوقة للسودان في مهرجان كان. لو قُدّم الفيلم في المسابقة الرسمية لوجدنا ذلك طبيعيا بل كنّا نفضل أن يكون الأمر كذلك بالنظر إلى مضستوى بعض الأعمال التي ارتأت إدارة المهرجان إدراجها في قائمة المتنافسين على السعفة الذهبية. ربما كانت الخشية أن يتجاوز عدد الأفلام الإفريقية نسبة لامحتملة. لكن دعنا من التخمينات التي لا فائدة منها، ليست موضوعنا الآن.
تدور الأحداث قبيل تقسيم البلد. منى، مغنية سابقة تخلت عن شغفها بالموسيقى لإرضاء زوجها المحافظ، تصيب طفلا إصابة خفيفة في حادث سيارتها، حركة مفاجئة تتسبب في مقتل أبيه وهو من الجنوب. تحاول منى التكفير عن ذنبها فتقترح على زوجة الضحية الاشتغال بمنزلها كمعينة…
أوّل ما يتبادر إلى للذهن هو ما يبرزه الفيلم من مفارقة بين الوضع السياسي بالسودان وما يرمي إليه العمل
إمرأتان تلتقيان بفضل سيناريو متقن لتفتحا لنا الطريق أمام جولة استطلاعية متعدّدة الأبعاد في أعماق المجتمع السوداني.
في الوقت الذي يعيش فيه البلد اضطرابا محزنا يمزّق المجتمع، يقدّم الفيلم « قراءة » عميقة ومنيرة لنزاعاته الباطنة. نؤكد على أهمية الكتابة لأن « وداعا جوليا » مثالٌ لمكانة السيناريو في السينما. ليست العبرة، كما يتخيّل العديد، في التحكّم في الصياغة ونسج الخطوط الدرامية وفق منطق النجاعة التقنية بقدر وضع هذه المهارة في خدمة الصورة التي يرمي إلى تشكيلها الفيلم. فالشخصيات وبالتحديد الشخصيتان الرئيسيتان لا تجسّدان فئة معينة (المُسلمة والمسيحية أو الغنية والفقيرة أوبنت الشمال وبنت الجنوب) ولا حتى فكرة (التقاتل والتسامح، الحب والكراهية) لكن بالرغم من انتماء كلّ واحدة إلى ديانة معينة وفئة اجتماعية مختلفة فإنهما (والأمر يخصّ بدرجات متفاوتة كل الشخصيات) كائنان مركّبان ومتحرّكان، لا يسيران في اتجاه مرتقب أو منشود وإنما في ديناميكية كلّها تعقيد لا تحلّ المشاكل بابخس المصاريف.
نحن لا نعلم كلّ شيء عن منى ولكن نفهم تصرفاتها مع زوجها وخارج بيتها لأن ماضيها يفسّر ذلك، ولكن يفسّره بقدر ما تقتضيه حاجتنا إليه. وكلما قدّم لنا المخرج معطى لإنارة موقف معين فهمنا أنه (أي المخرج) أعدّ من المعطيات ما يجعلنا ننخرط في مسار منى انخراطا طبيعيا سلسا حتى وإن امتنع على مدّنا حينها بما يفسّر تصرفها. حكمة ومهاره نادرتان في سنيمائياتنا الثقيلة أخلاقيا وايديولوجيا.
والأمر كذلك بالنسبة لجوليا. ثم تتطوّر الشخصتان بصورة خفية وفق جدليّة علاقتهما ببعضهما. لم نكن متيقنين من أن جوليا أدركت الدوافع الحقيقية وراء سخاء منى فالمخفي يضاهي المعلن بل يتجاوزه أحيانا. لذلك كانت الحوارات مثيرة ذكية وأنيقة. ولذلك كان الشريط متعدد الجوانب، تظافر فيه السيكولوجي والمجتمعي والسياسي
تظافرا دقيقا ناعما