في « الثلث الخالي » فوزي بن سعيدي يحملنا بعيدا بعيدا

بقلم الطاهر الشيخاوي

لم نتوقف أبدا عن اعتبار فوزي بن سعيدي واحدا من أهم مخرجي جيله في العالم العربي وحتى في العالم بأسره، وهو بدون شك أهم مخرج مغربي. منذ بداياته في الإخراج (علما أنه أيضا ممثل) لم يَخف على أنظارنا أيُّ عمل من أعماله ولا على أنظار المتابعين المدركين للشأن السينمائي، وجاء فيلمه الأخير »الثلث الخالي » ليؤكد ما ذهبنا إليه سابقا من أنه يملك قدرة فائقة على تحديث الأشكال التعبيرية للسينما العربية وجرأة عجيبة وضعته في الصفوف الرائدة للحركة السينمائية العالمية

مهدي وحميد يشتغلان لدى وكالة بنكية، تتمثل مهمتهما في جمع المبالغ التي تأخّرعلى تسديده بعضُ المنتفعين بقروض، يجوبان البلاد طولا وعرضا، منتقلين من قرية إلى أخرى في أقصى أقاصي البلاد، منكلين بمواطنين بسطاء يعانون من الفقر والجفاف. يمزج الفيلم بين الكوميديا والرود موفي ثم ينعرج نحو الوسترن عندما يلتقي مسار الشخصيتين بقصّة مجرم خطير.

ملاحظتان أساسيتان يفرضهما الشريط : أوّلهما أن فوزي بن سعيدي ذهب هذه المرّة أبعد مما عوّدنا عليه في استكشافه لحقل الإبداع السينمائي إلى درجة قد يصعب حتى على المتابع المتقدّم إدراك ما وصل إليه. يتقدم الفيلم حسب خيط درامي واضح مع الشخصيتين الرئيسيتين وان لم يكن هذا الخيطّ خطيا بل يشوبه نوع من الكوميدية العبثية الغير معهودة. نتابع الأحداث باهتمام وابتسامة تغذيها إشارات عديدة وذكية تحيل على قضايا اجتماعية حارقة. ثم فجأة ينقطع الخيط وتأخذ الأحداث منعرجا غير منتظر يضع المشاهد في حالة من الذهول. شخصيات نظنّ أنها عابرة تتصدّر المشهد، تذهب بنا إلى مناطق أخرى خلناها جانبية كاستدراك غريب بالنسبة إلى علاقته الخطية المتوقعة ولكنه استدراك متعارف عليه في مضمونه من حيث تجذره في الأسطورة.

والأهم من ذلك كلّه مكانة الفضاء في الفيلم. من تابع مسار فوزي بن سعيدي يدرك أهمية المكان في كلّ أفلامه، حضريا كان أو قرويا. لا فقط من حيث توفقه في انخراط الشخصيات في محيطها الجغرافي وقيمة هذا المحيط في تحديد ملامحها وهي مسألة سينمائية أساسية تظهر بوضوح في عنايته بتركيب لقطاته ورسمها ولكن والأمر مهمّ للغاية في كون الفضاء يصبح فعلا شخصية كاملة الحقوق. نعلم أن كلّ فيلم من أفلام فوزي بن سعيدي يروي قصّة مدينة مغربية. وكنّا ذكرنا ذلك في مقالات سابقة. بل يتعدى الأمر هنا ذلك بكثير فتصبح الأماكن شخصيات قد تفوق أهميتها أحيانا الشخصيات البشرية أو، حتى نتجنب المبالغة، لنقل إنها تساهم مساهمة حاسمة في تحديد ملامحها. فصمت هذه الشخصيات، وغالبا ما تصمت الشخصيات، لا تُـفقر الشريط بل تترك للفضاء مجالا للتعبير عن الأبعاد الوجودية والمحيرة لدى بني آدم. صحيح أن الأفلام ذات المنحى السياحي غالبا ما تميل إلى ابراز « الجمال » التشكيلي لجغرافيا البلدان البعيدة ولكن الجمال هنا يتكلم، يتحمل جزءا كبيرا من الحكي، يحمل في تضاريسه، معاني تفتحها الشخصيات بحركاتها وبعض ما تنطق به دون الانهاء من التلفظ فتواصل الجبال والسهول والأودية والهضاب ما عجز الشخصيات عن التعبير عنه . خاصيّة فوزي بن سعيدي تتمثل في ادراكه لأبجدية الفضاء ولغة الجغرافيا المغربية والسينمائية.

« الثلث الخالي » هو درس في لغة الفضاء نحوا وأسلوبا.

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page