علاء الدين سليم يخترق كل الحدود

بقلم الطاهر الشيخاوي

 

في جدلية المهرجانات والأفلام نعلنها صراحة : هناك أفلام ترفع المهرجانات من شأنها وهناك أفلام ترفع من شأن المهرجانات. ينتمي « طلامس » بدون شك إلى الفئة الثانية، أما علاء الدين سليم فهو بدون شك سينمائيُّ عظيم، ولا فائدة في إضافة تونسي أو مغاربي أوعربي أو إفريقي أومتوسطي، لأنه كل ذلك معا (نعني السينمائي طبعا ) اللياقة تقتظي القول بأن علاء الدين سليم سينمائي عظيم وأن « طلامس » ينتمي إلى فئة الأفلام التي ترفع من شأن المهرجانات

بالتأكيد لا يميل علاء الدين سليم إلى التسلسل الدرامي المعتاد. فعلى غرار ” آخر واحد فينا “ جاء ” طلامس “ في جزئين، كما لو كان منشطرا. أو هكذا يبدو لنا للوهلة الأولى. وإذا اقتصرنا على هذا الإنطباع ربما رأينا في هذا الإنشطار ارتباكا أو خراقة أو، في أسوء الأحوال، عدم دراية بقوانين الكتابة السينمائية أو ضربا من التقعر ناجما عن محاكاة ساذجة لمخرجين أمثال أبيشاتبونغ فيراسيتاكول أو جوس فان سانت أو ستانلاي كوبريك، وكلهم يسكنون فعلا ذاكرة علاء الدين السينمائية. ولكن إذا تجاوزنا هذا الإنطباع الناتج في رأينا عن قصور في الرؤية أو سوء نية أوتحامل ربما لمسنا معاني أخرى وأدركنا دلالات أعمق ولكن يقتضي هذا التجاوز اِستعدادا ذهنيا وتخليا على عبادة الإستقامة. قلنا إن العمل جاء منشطرا، فالجزء الأول معهود، يحمل كل علامات التقليد الكلاسيكي (عرض للوضع العام : مجموعة من العسكر في مهمة ضد الإرهاب في الجنوب التونسي، تقديم الشخصيات : بما فيها الشخصية الرئيسية، طرء الحدث المفاجئ : انتحار جندي ووفاة الأم، نتيجة الحدث : رخصة الخروج، انتقال الشخصية إلى العاصمة ثم هروبه من الجيش فملاحقته من طرف الشرطة العسكرية إلخ) بينما يتضمن الجزء الثاني علامات غريبة بل غرائبية (بدءا بتصرف غير مفهوم لشخصية قليلة الكلام فاقدة لعلامات التأثر، وصولا إلى تحول فيزيولوجي مذهل، مرورا بظهور مفاجئ لشخصية أخرى لا ندري من أين قدمت وحيوان عملاق انتصب هكذا دون سابق إشارة)، كل ذلك في إرتخاء غريب لتسلسل الأحداث. منذ خروجه من الثكنة بعد وفاة أمه وانتحار زميله ( في تزامن محيّر يفضي على مجرى الأحداث شيئا من الريبة) يدخل س. في عالم مغاير بعيدا عن السياق الحضري (س. هكذا اختار علاء الدين تسمية شخصيته في ملخص الفيلم، أما في الفيلم ذاته فلا أحد ينادي أحدا باسمه)، يدخل في غياهب أخرى، قادما من الجنوب ومتجها نحو الشمال كالغريب أسود البشرة في ” آخر واحد فينا “ وخلافا ل« آخر واحد فينا » لم يكن التحول في نفس الدرجة من الإضمار. لم يشقّ س. البحر بالرغم من أهمية عنصر الماء في جمالية الفيلم بل بقي على اليابسة، من هنا جاءت حركات الكاميرا الطويلة المسترسلة في ضرب من اِختراق الحدود على الأقل مرتين في الشريط، مرة أولى، بُعيد تخلصه من شرطي يلاحقه أرْداه صعِقا، في لقطةمشهد هوائية بطريقة الدرون محلقة عند انبلاج الفجر فوق مدينة رادس (بضاحية تونس الجنوبية) انطلاقا من صومعة مُنيرة وصولا إلى ساحة قفراء تشتعل فيها بقايا قمامات، كأننا بها ترافق روحا تائهة ارتفعت من المسجد إلى السماء محلقة فوق المدينة لتسقط في الفضلات محترقة، ومرّة ثانية، أرضية، إثر هروبه من قبضة الشرطة العسكرية، بطريقة كاميرا محمولة تتابع س. عن قرب وهو يهيم عاريا عارجا منحنيا ماسكا بجرحه النازف من المقبرة إلى الغابة. لقطةمشهد تدوم سبع دقائق على إيقاع موسيقى فرقة وازو تومبات، يطول الحديث عنها (تحية لا بد منها هنا للعمل الرائع الذي قام به أمين المسعدي) لأنها تفتح نهائيا الفيلم والسينما التونسية على زمن مغاير، ننتقل أثناءها من زمن السرد التافه إلى ديمومة حكيٍ تأملي عميق، نتحرر من القيود الدرامية المعهودة للغوص في تأمل للذات البشرية دون تكلف أوتعلات واهية. وعندما نقول إن العمل جاء في جزئين فهذا غير دقيق لأن الجزء الأول وإنْ كان بالفعل واقعيا فقد حمل في طياته عناصر غريبة تعود بوضوح في الجزء الثاني سواء كانت شكلية كالشاشة السوداء في أول تذكّر طريف لمونوليت كوبريك (2001 أوديسة الفضاء) أو مضمونية كالحية الميتة في الحديقة، في سبق هافت للظهور المفاجئ للحيوان الضخم، ثم جاء الشرخ مرتين، مرة أولى مع شخيصة الرجل ومرة ثانية مع شخصية المرأة ف.(هي أيضا ينتهي إسمها هنا). تكرّرت العملية فانتقلنا أولا من الثكنة ومنزل س. إلى الغابة مرورا بالمدينة وانتقلنا مع شخصية ف. من منزلها الفخم إلى الغابة وإن كان انتقالها أسرع (سرعة لا تخلو من دلالة لأن ف. مستدعَية وليست مستدعِية). إذن أدخل العنصرُ النسائي الذي كان غائبا في الأفلام السابقة لعلاء الدين سليم تعقيدا في التركيبة السردية، كما أدخل تعقيدا في البنية الدرامية. فيلتقي هنا رجل بامرأة وليس رجل برجل آخر كما في ” آخر واحد فينا “ ( تحية بالمناسبة لسهير بن عمارة وعبد الله المنياوي) ويطرح السؤال : كيف سيتعامل المخرج مع هذا اللقاء الأبدي الذي من شأنه أن يعيدنا إلى مربع الواقعية نظرا لما يحمله في تاريخ السرد الروائي؟ هنا تأتي المفاجأة الثانية والهامة. لن نبوح بجزئيات القصّة حتى نترك للمشاهد لذة الإكتشاف، ولكن عندما تتحول شخصيات علاء الدين سليم من عالم الواقع إلى عالم ماوراء الواقع تتغير قواعد اللعبة وتعاد بنية المنظومة السائدة ويتظافر العنصر البشري بالعنصر الحيواني والنباتي والمعدني على شاكلة أخرى فريدة من نوعها، هي نتاج متفرد لخيال المخرج..

تماما كما تمحور الفيلم حول ترتيب زمني مزدوج، زمن وقوع الحدث وزمن تأمل الحدث، فإن البنية الدرامية تأسست حول مستويين إثنين، مستوى إجتماعي ومستوى وجودي، وكما يمكن أن يقتصر الفهم على زمن الحدث يمكنه أيضا أن يقتصر على المستوى الإجتماعي فتنحصر دلالات الفيلم في المقابلة بين الإلتزام السياسي والإنخراط في الطبيعة فيُـقرأ مسار س. كدعوة غير مباشرة إلى العزوف عن واجب الدفاع عن الوطن بل الخروج عن النظام الإجتماعي بأكمله والإحتماء بالطبيعة والرجوع إلى أصل الحياة الأولى. ويكون علاء الدين سليم من دعاة الفكر الرومنسي الماضوي ووفاة الأم نقطة انطلاق نحو اِنعتاق س. من قيود السياسة والمجتمع والألتحاق بعالم الحيوان والنبات والمعدن والإقتراب فيزيولوجيا من الأنوثة حتى ينتهي به الأمر إلى الرجوع إلى منبع الحياة ذاتها والإنصهار الكلي في عنصر الماء. كل هذا موجود في الشريط ويتقاطع بصورة أو بأخرى بقضايا العصر. من هنا جاءت غالب ردود الفعل أثناء النقاشات مع الجمهور وخاصة في أروبا حيث تحتلّ مسألتا البيئة والجندر صدارة المساجلات الفكرية. أما قدوم الفيلم من « الجنوب » العربي الإسلامي بالخصوص فضاعف من النزوع إلى هذا المنحى، خاصّة أنه يفترض، في منضور استشراقي فلكلوري، أن تمثل هذه الأفلام مرآة « صادقة » ومباشرة لواقعها المفترض

لكن هذه القراءة تتناقض تماما مع تمشي علاء الدين سليم الذي وضع المسألة الجمالية في صلب عمله لأن الإبتعاد عن المحيط الحضري والهروب إلى الحياة البرية واختلاء الشخصية في الغابة يجب فهمه على أنه درجة في سلم الخطاب يستقي أدواته من اللغة السينمائية. من هنا تأتي الإحالات المباشرة والضمنية على عوالم سينمائية سابقة والتي لا يعدّ مونوليت كوبريك إلا عنصرا بارزا فيها بروز التحية، فالجمالية هنا لاتعني الشكلانية الجوفاء التي لا ترمي إلا إلى متعة الصورة في مفهومها المجرد وإن كانت الدعوة إلى متعة الصورة حقيقة في الشريط، ولكنها تمثل النهج المؤدي إلى طبقة ثانية من الدلالات السياسية والإجتماعية. فتجرد الشخصية من القيود المجتمعية لم يكن نتيجة   » وعي  » أيديولوجي أوقرار إرادي ولكن تحررا وجوديا شاملا وعميقا جاء نتيجة تخلّ عفوي، هجر ورحيل. فالتجريد السينمائي أي التحول من الواقعية إلى الغرائبية ومن اللغة بمعنى التلفظ وفق قوانين صوتية ونحوية وإلقائية إلى مجرد تبادل للنظرات هو تحرر من أدوات أصبح تكرارها لا يؤدي المعنى الذي وجدت من أجلها فأضحى من الضروري التخلي عنها لل« رجوع » إلى أبجديات الحياة، إلى الصمت والسكون والغوص في ذات الذات

فإن كانت هناك دعوة إلى شئ ما فهي دعوة إلى التخلّ عن أدواة أضحت بالية لا تحيل إلا على ذاتها في حلقة مغلقة كان غرض الفيلم الحقيقي التحرر منها. وما كان ذلك ممكنا لولا التحرر من قيود اللغة السينمائية التقليدية و« الرجوع » بالمعنى الجدلي للكلمة إلى أصول الفن السينمائي

لنضف إلى ذلك كله، أن « طلامس » عمل سياسي في جوهره

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page