عرس الذيب للجيلاني السعدي، الإنفلات وراء الهامش

بقلم الطاهر الشيخاوي

 « عرس الذيب » هو ثاني شريط طويل للجيلاني السعدي وهو بكلّ وضوح مواصلة ل« خرمة » لسبب واحد على الأقل وهو عودة الممثل محمد قريع وتكليفه ثانية بالقيام بدور الشخصية الرئيسية، فضلا عن أسباب عديدة أخرى سوف نتعرض إليها فيما بعد. والأهم من ذلك، وإن كان الأمر أقل وضوحا، هو أن « عرس الذيب » قطَع مع « خرمة » على نحوٍ ووفقَ أنماطٍ سوف تتأكد بمزيد من الوضوح في أعمال المخرج اللاحقة. أما الأهم من ذلك بكثير فهو أن « عرس الذيب » يمثّل لحظة فارقة في تاريخ السينما التونسية وفي المنطقة. لنبدأ من هنا ولنتذكر أنه في غضون سنة 2006، ولنقتصر على نفس جيل الجيلاني السعدي، أخرج فوزي بن السعيدي (المغرب) « يا له من عالم رائع » وطارق تقية (الجزائر) « روما ولا انتوما » وعبد الرحمان سيساكو « باماكو » ومحمد صالح هارون « دارات » ؛ أما « عين الشمس » لإبراهيم البطوط سيأتي بعد ذلك بسنتين. إذا ما شاهدنا هذه الأفلام وأدركنا المكانة التي يحتلّها هؤلاء المخرجون في تاريخ سياقاتهم، يمكننا تقدير إضافة الجيلاني السعدي حقّ قدرها، إذْ من مفارقات زمننا أن قيمته الفنية تتجاوز بكثير قيمته في السوق الثقافية وظهوره في المهرجانات

كان محمد قريع إذًا مصدرَ « عرس الذيب« . يؤكد الجيلاني السعدي أن فكرة الفيلم نشأت من رغبته في الاشتغال مجددا مع الممثل. يعود محمد قريع حاملا معه جزءا من حكايته، مرفوقا بمحمد المرالي أبيه الرمزي في « خرمة » الذي يصبح أباه البيولوجي في « عرس الذيب« . ولكن مِنْ خلَفٍ له في « خرمة » يتحوّل إلى خصم معارض له هنا. مواصلة وقطيعة. يمكن القول إن تحول طبيعة العلاقة مع الأب تلخّص طبيعة المرور من الفيلم الأول إلى الفيلم الثاني. خرجَ « عرس الذيب » من رحم « خرمة » تماما كما خرج صطوفة من بيته، ترك حجرته والتجأ إلى المرأب. هكذا تبدأ الحكاية : يغادر صطوفة منزل الأب، غاضبا، يجري في زقاقٍ مظلم والكاميرا ترافقه بترافلينغ خلفي على وقع صيحة مدوّية. حركة أساسية تتكرر في الأفلام اللاحقة للجيلاني السعدي بأشكال مختلفة. الإنفلاتُ بدايتُها. من السماء إلى الأرض في « وينو بابا« ، من الشقة إلى اللامكان في « بدون2″ وإلى الطريقة السريعة في « بدون3 » الخ … هكذا تجري الأحداث في سينما الجيلاني السعدي، تنفلت الشخصية من نقطة معينة، من فضاء مغلق أو خلية عائلية محددة وتنطلق نحو نقطة لا حدّ لها، إلى فضاء مفتوح. كلّ فلم من أفلامه هو رحلة نحو المجهول. يعود محمد قريع حاملا معه حكايته ويعود رفقة حبيب مبارك مقترحا إياه على المخرج لعله يمنحه دورا ما. اهتمام الجيلاني السعدي بالممثل أمر أساسي ومُلهم. يستجيب لاقتراح قريع فيسند لحبيب مبارك دور « الذهبي« ، ليكون أقرب شخصية من صطوفة كأخيه الأصغر، كما لو كانت الشخصيات في خدمة الممثلين تتشكل حسب رغباتهم. الملاحظ أن فوزي بن السعيدي سابق الذكر هو أيضا تربطه علاقة وطيدة جدّا بالممثلين وإن كان بطريقة مختلفة ( فهو ممثل قبل أن يكون مخرجا). في صناعة الافلام، القاعدة هي أن تسبق الشخصيةُ الممثلَ باعتبار أن الممثل يجسّد الشخصية. ولكن مع الجيلاني السعدي تنعكس المعادلة، الممثل سابق والشخصية لاحقة، وتنحو منحاه. المفارقة أربكت العديد بما في ذلك النقاد لأنه يبدو أخرقا في أدائه. « عرس الذيب » هو أيضا قصّةُ ضياع تماما كما هو الشأن في « خرمة« ، قصّةُ اقتلاع من الوسط العائلي والإجتماعي، مُهمّش يعيش خارج حدود المجتمع ثم يتيهُ نحو هوامش أخرى ليست شعربة متسامية بل غارقة في عمق أعماق الواقع. ولكن الفارق بين الفلمين هو أن شخصية « عرس الذيب » لم تعرف أي شكل من الإرتقاء أو الإعتراف ولو لمدّة قصيرة كما في « خرمة« . حتى إيهام النفس باعتلاء المؤسسة لم يعد ممكنا، فما إن إلتحق صطوفة بأصدقائه المهمشين حتى انهال عليهم شتما قبل الجلوس معهم والانضمام إليهم. هو منهم وليس منهم. بطريقة ما قد انتقل بعدُ إلى جزر الرأس الاخضر

يقول الجيلاني السعدي إن الكاميرا التقليدية لم تمكّنه في « خرمة » من الإقتراب بما فيه الكفاية من الممثلين. من هنا جاء اختياره للكاميرا الرقمية، استجابة لضرورة التحرّك المَرن والمرافقة اللصيقة لشخصيات مُنفلتة، ومُنفصلة، مسارها غير متأكد ومصيرها مجهول، إختيارٌ حرَمه (وحرّره في الوقت ذاته) من الإعانات (علما وأن الفيلم لم يتحصل إلّا على دعم وزارة الثقافة). حتى الكاميرا الرقمية التي اختارها لم تكن أكثر الكاميرات حرفية، لكن يكفي وضعها فوق مقود الدراجة النارية للحصول على حركة الترافلينغ. لذلك ارتمى السعدي على الغو برو بمجرد ترويجها في السوق ليستعملها لاحقا. إن هذا القَطع مع الأنماط التقنية والإقتصادية السائدة والذي اكتمل مع سلسلة « بدون » إنما هو في تطابق مع فكرة الفيلم وجماليته. لم يتوفق أي مخرج من نفس الجيل في مواكبة انخرام المؤسسة قبل وأثناء وبعد حكم زين العابدين بن علي كما توفق الجيلاني السعدي وبهذه الدّقة. هذا لا يعني أنه يصنع سينما سياسية ولكن أفلامه جدّ سياسية في أبعادها. ثم لم تقتصر الأزمة على المؤسسة السياسية والإدارية والإقتصادية فقط بل بدأت من سلطة المؤلفالراوي ذاته التي أضحت، مع وجودها، غير متأكدة، بل باتت محلّ تساءل، لأنه اختار مسايرة الممثلينالشخصيات الذين يعرف أنهم لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون. تدوم القصّة خمس عشرة ساعة من الرابعة مساء إلى السابعة صباحا. وكلما مرّ الزمن سارع الراوي بإعلامنا بذلك (وإن تعلق الأمر في غالب الأحيان ببعض دقائق باستثناء زمن النوم) في ضرب من العدّ التنازلي المعكوس. فاختزال زمن الحكاية واقترابه من زمن المشاهدة لا يسمحان بالتعالي. ولكن ثمّة سلطة أخرى، ظهرت أحيانا وفي شكل خافت في « خرمة » وأصبحت أكثر وضوحا واستقلالية في « عرس الذيب« ، ثم تأكدت في « في دمي« ، وهي تلك الكاميرا المنتصبة فوق الشخصيات، كأنها ساكنة على الأصطح أو في السماء، لا ندري إن كانت للمراقبة أو هي عين قوّة قاهرة، قمَر صناعي، إلاهٌ متشف أو شيطان هازئ، سلطة باردة، صامتة تحدّق أو تسترق النظر بالابيض والاسود. المسافة شاسعة بين من يتابع الشخصيات وهذا الدخيل الغريب، لا علاقة بينهما، فيتخيل لنا أن وجهة النظر انفطرت وتمزقت. الحكاية تدور بين نقطتين على طرفي نقيض، تجري في فضاء مفتوح يُربك المشاهد. بقي أن المراوحة بين هاتين النظرتين غير متوازن، فنحن نتابع الشخصيات جنبا إلى جنب، إلا أن حركة الحياة المسترسلة تتوقف من حين إلى آخر وبدون سابق انذار بفعل هذه النظرات الباردة الغريبة. يجب القول إن الشخصيات تعيش باستمرار في حالة قصوى كأنما هي على حافة هاوية، مهددة دوما بالسقوط أو هي في سقوط دائم. مشهد الذهبي في المحطة أكبر دليل على ذلك. ظننا في لحظة ما أنه رمى بنفسه أمام القطار ولكنه لم يفعل. نحن لسنا في تراجيديا. شخصيات الجيلاني، الرجال خصوصا، أجبن من أن يدركوا غايتهم أو هم في درجة من الإنهاك لا تمكنهم من ذلك أصلا، فرغباتهم تفوق قدرتهم على تحقيقها، كما لو كفّوا عن العيش معنا. نحن أبعد ما يكون عن أبطال الزمن الماضي، منتصرين كانوا أو شهداء، بل تجاوزنا حتى الرجل المهتز كما صوّره النوري بوزيد أو الرجل عديم الخصال كما راق لمرزاق علواش أن يرسمه. فهؤلاء الباعة المتجولون، الذين لا حول ولا قوّة لهم، هؤلاء العاطلون عن العمل المقنّعون، الذين فقدوا حتى القناع، نحن لا نعرف إن كانوا لا يملكون الشجاعة الكافية للإنتحار، كما يقول ذهبي، أو ليس لهم أي رغبة في ذلك باعتبار أن مصيرهم قد حسم بعد. في كل الحالات لم تحن بعد ساعة محمد البوعزيزي

ثم هناك سلوى ذات الخطى الثابتة. إعتقد الثلاثي أنهم أهانوها لمّا اغتصبوها ولكنهم مزّقوا فقط فستانها. هذا ما أغضبها وصدم المناظلين المحترمين وحرم الجيلاني السعدي من الإعانات العالمية. أما صطوفة فيبدو أنه فهم (أو خيل إليه) أنها تعيش في عالم آخر، بعيدا عن العالم الآني. قد تكون في جزر الرأس الأخضر، قد تكون سيزاريا ايفوراهيبدأ الشريط وقد اختارت فستانها الأحمر ولكن لن تتمع به طويلا. بعض الدقائق من التأخير كانت كافية لكي يحدث ما لم يكن في الحسبان. ثلاث سيارات أجرة تقف الواحدة تلوة الأخرى في المكان المحدّد يبعث بها ليبي غني فاسق ولكن تأخرت سلوى عن الموعد، هناك بالتحديد حيث كان مراد والذهبي وعزيز ينتظرون اللّاشئ. لم يبق لهم سوى احتساء قارورات معدودات من الجعة . تأتي سلوى بعد قدوم صطوفة والتحاقه باصدقائه إثر مغادرته البيت مما زاد في تعلّقه بحُلمه في الرحيل إلى جزر الرأس الاخضر و الإلتحاق بالنجمة صاحبة القدمين الحافيتين. لن يشارك في الإغتصاب، ولكن لن تمتنع سلوى من الإنتقام منه فطلبت من أخيها وعصابته أن يسلّطوا عليه العقاب الذي تعتقد ظلما أنه يستحقه. لقاء صطوفة بسلوى كان مبنيا على سوء تفاهم، على اتفاق هشّ، رغبة في التشفي لم تتحقق من ناحية وافتداء مؤقت من ناحية أخرى. أما صطوفة فلم يحقق إنتقامه المقرر، اذْ تحوّل سكينُه، آلةُ الجريمة المبرمجة، إلى أكسيسوار مُضحك لرقصة مرتجَلة. أما سلوى فدفعت ثمن خطئها بتحمّلها السجن لحضات حوّلتها، بمحض إرادتها، إلى مسرح خيال الظل، ثم أهدت جسدها لسجّانها، طوعا ولكن بدون لذة، قبل مغادرته، في الصباح الباكر، معاتبةً إياه، في عودة وعيٍ مفاجئ، على البؤس الذي يقبع فيه. أُعيب على الجيلاني السعدي الصورة التي قدمها للمرأة في « عرس الذيب« ، صورة كان يريدها بعضهم إيجابية وبديلة ومناقضة لما هي عليه من اضظهاد مفترض أو حقيقي. إساءة فهم عميق. بصرف النظر على أن سلوى هي الشخصية الوحيدة التي تدرك ما تريد (يكفي مشاهدة العزم الذي تتحرك به في الفضاء) إن أهم إضافة للجيلاني السعدي هي أنه أسكن خيالَه مادّيا ومعنويا بفئات من المجتمع لا صورة لها، بهؤلاء الآخرين، آخري الآخرين الذين يعيشون على هامش الهامش، هؤلاء الذين أدركنا فجأة أنهم موجودون، وأننا في زمن الحجر لسنا نعرف كيف نتعامل معهم ولا حتى كم عددهم لدمجهم في سجلات الصناديق الإجتماعية

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page