تنسى كأنك لم تكن لرضا التليلي، بين العتمة والدفء

بقلم الطاهر الشيخاوي

 

 

 

 

عُرض « تنسى كأنك لم تكن » بقاعة سيني مادار بقرطاج في اطار نادي السينما يوم الثلاثاء 13 فيفري بحضور رضا التليلي مخرج الفلم وعبد الحق بسدوري أحد أبرز شخصياته أمام جمهور غفير ، وأجاب المخرج ورفيقه على الأسئلة التي طرحت عليهما بعد العرض في نقاش أداره إقبال زليلة
انطباعاتنا .

لم يقتصر شغل رضا التليلي على فلم أو فلمين. فهو لا يزال يواصل بثبات وجلد وبدون صخب استكشاف طريق خاصّة به، يتساءل باستمرار حول قضايا الثورة التونسية والشباب المناضل والثقافة ومنطقة ولادته. ولم تأت هذه التساؤلات منفصلة ولكنها جاءت دائما مجتمعة في كل عمل من أعماله، مرتبطة ارتباطا مختلفا في كل مرّة

وكان الأمر كذلك في شريطه الأخير « تنسى كأنك لم تكن« ، شريطه الطويل الرابع اذ تعلّق الأمر بوضوح بمجموعة من الأصدقاء المناضلين الثوريين والمهمشين من شباب سيدي علي بن عون (التي تقع على حوالي 50كلم جنوب سيدي بوزيد) شباب تربطهم علاقة صداقة قوية وولع بالفن المسرحي. يتناول رضا التليلي في هذا العمل أيضا نفس المواضيع ولكن لا بدّ من الإقرار بأن مقاربته انبنت هذه المرّة على فكرة هامة قوامها الأساسي مسألة التمثيل في كلّ معانيها، وكانت صديقتنا انصاف ماشطة تناولت هذا الموضوع في مقالها الجميل المنشور يوم 10 فيفري بمجلة نواة والذي كان عنوانه « التمثيل رهان سياسي وجمالي

إلا ّ أن المسألة لم تـُطرح بفجاجة ولم تأت نتيجةَ التزام ايديولوجي مزعوم. كانت حاضرة في الآن ذاته ضمن مادّة الفلم نفسه (فالموضوع كان بالتحديد الشباب المهمش) وحاضرة أيضا من خلال الإخراج السنمائي في البحث عن كيفية تصويرهم. فامتدت دلالات الفلم في عمق هذا الهامش الفاصل بين عبثية تغييب هؤلاء الشباب وطموح المخرج في طرح مشروعية اثبات وجودهم

هنا تكمن قوّة الفلم، هنا تكمن قوّته الظاهرة، وهي قوة اقتراح سياسي. ولكن نعني بالغياب والحضور الظل والضوء، ظل الصورة وضوئها. وهنا تكمن عظمة الفلم، تكمن في ترجمة المعادلة سينمائيا. وذلك من الوهلة الأولى، اذ يبدأ الفلم في دكّان مظلم تمام الظلمة لا تلجُه النور الاّ من الخلف عبر بابه المفتوح في توليف للإنارة معاكس للمعهود، فنحن لسنا في السينما فحسب ولكن داخل الكامرا ذاتها، في بيتها المظلم، حيث ننطلق نحن المشاهدون في متابعة الشريط وتنطلق الشخصيات داخل السيارة، كلّنا في مسيرة الظلمة والقرب، مسيرة العتمة والدفء. وليس من باب الصدفة أن يتمّ ذكر الآلة والمخرج منذ اللحظة الأولى ( انت تْصَوِّر وٍلّا تْمنْطي ؟) تلك هي أوّل الكلمات التي تفوهت بها الشخصيات

تابع رضا التليلي هؤلاء الشباب بل رافقهم من سنة 2013 إلى 2016 في ما تعرضوا إليه من شدائد وفي غضبهم وفي يأسهم وفي خيبتهم، كما واكبهم في لجوئهم للنشاط المسرحي لمواجهة تلك المصاعب. كان قريببا منهم لصيقا لهم، يصوّرهم عن كثب حتى كدنا لا نرى من محيطهم شيئا

فكان عدد اللقطات البعيدة نادرا باستثناء ما تمّ تصويره في الفضاء العام بمناسبة الاِجتماعات السياسية أو في مشاهد طبيعية كانت بمثابة لحظات انفلات شاعري لم يمتنع رضا التليلي عن التغنّي فيها بشخصياته، لحظات عابرة خفيفة. فما كان « تنسى كأنك لم تكن » فلما عن الشباب ولكن فلما مع الشباب، صوّرهم رضا التليلي وهم يخطبون ويتناقشون في السّياسة كما صوّرهم في حياتهم اليومية يمزحون ويأكلون ويغنّون. وكان المزج بين هذه السجلّات مزجا طريفا أنآ بالفلم عن الخطابة المزيفة والمزايدة السياسية، فأخذ السخط أشكالا مختلفة اختلافا كبيرا حسب الشخصيات (النقاشات بين شافي وعبد الحق كانت من أجمل وأروع لحظات الفلم) ولم يأت نتيجة قناعات أيديولوجية مجرّدة ولكن كتعبير منطقي لوضعهم الخاص

كان رضا التليلي دوما منتبها لقضية الفنّ، شعبيا كان (في « جهة ») او ثوريا (في « ثورة غيردرج »)، اذ خصّ المسرحَ هنا بمكانة متميزة، فالشباب فكّروا في بعث جمعية مسرحية، كانوا يعدّون لها في أوقات فراغهم (وهي طويلة)، مسرحية لمْ نلمس منها الاّ القليل، عمل جماعي في منتهى الارتجال. ولكن الواضح المتأكد هو أنها اجتماعية سياسية. وهكذا يمكن أيضا فهم الفلم : على أنه مشروع بعث جمعية ثقافية. فالحكاية انتهت لما تقرر بعث الجمعية في آخر لقاء عمل لأفراد المجموعة. قد لن يتحقق الأمر في الواقع وربما لم يتحقق، لكن القرار جاء خدمة للتركيبة الدرامية للشريط. كان من الممكن أن تكون تركيبة الفلم مغايرة و أكثر تاريخية باعتبار أن الفترة المعنية دامت ثلاث سنوات مليئة بالاحداث

ولكن التمشي كان خلاف ذلك ، فالخيار كان للمشهد (الدرامي) على حساب السرد (التاريخي)، عمل مسرحي أكثر منه روائي. وكما أسلفنا، لم يكن المسرح مجرّدَ غرض تيمي بل زادَا استقى منه المخرج قانونا لعمله. فلم يقتصر رضا التليلي على اظهار الشباب وهم يمثلون أدوارا ولكن كانوا يمثلون التمثيل. فالهامش الذي حُكم عليهم المكوث فيه أصبح مسرحا لللعب وملجأ للصداقة والمودّة وملاذا للتعبير الجانبي عن رغباتهم في العمل، في الحياة وفي النساء. وبمناسبة الحديث عن المرأة، فغيابها الذي مانفك كثيرهم يذكره كنقيصة في العمل كان مرتبطا باشكالية التمثيل. استنبط رضا التليلي مبدأه الاساسي في الإخراج من المسافة التي اتخذتها الشخصيات عن وضعها، فسعى يتحرك هنا، في قرب لطيف و محترِم لشخصياته ، في تعاطف معهم خالٍ من أي ديماغوجية، مدركا اختلاف وضعه الاجتماعي وصفته المهنية

فكان حريا بنا أن نرى الرقّة والرشاقة حيث يمكن خطأ أن نرى الحماقة والارباك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page