بعض ما كتبه جيل دولوز عن كينجي ميزوغوشي

ترجمة الطاهر الشيخاوي

بعض ما كتبه جيل دولوز عن ميزوغوشي(*)

كثيرا ما تتم المقارنة بين كوروساوا وميزوغوشي كما تتم المقارنة بين كورناي وراسين (مع أن التعاقب الزمني يختلف في هذه الحال). فعالم كوروساوا الذي يكاد يكون حصرا رجاليا يتعارض مع عالم ميزوغوشي النسوي. كما أن أعمال ميزوغوشي تنتمي إلى الشكل الصغير بينما تنتمي أعمال كوروساوا إلى الشكل الكبير. وتوقيع ميزوغوشي ليس الخطّ الوحيد ولكن الخطّ المتجعد كما هو الحال على بحيرة « حكايات القمر الغامض بعد المطر » حيث تملأ تجاعيد الماء الصورة بأكملها. ويشهد كِلا المؤلفيْن على التباين الواضح بين الشكلين عوض التكامل بينهما الذي يحوّل الواحد إلى الآخر. وكما يوسّع كوروساوا، بالتقنية والميتافيزيقا، الشكلَ الكبير توسعا تكمن قيمتُه في أنه يغيّر الشكل الكبير ذاته، يمطّط ميزوغوشي الشكل الصغير تمديدا أو تمطيطا يغيّر الشكل الصغير ذاته. أن ينطلق ميزوغوشي من هذا المبدأ أي من ربط الجزء الصغير بالجزء الصغير الموالي، لا من النفَس وإنّما من الهيكل، فهذا بديهي من عديد النواحي. كلّ شئ ينطلق من « العمق » أي من الفضاء المخصّص للنساء، من « أعمق ما في البيت » بهيكله الرهيف وبأحجبته. في « العشاق المصلوبين » (近松物語, Chikamatsu monogatari)، هناك حركة كاملة بين حجرات النساء تأتي كمقدمة للأحداث وتنبئ بهروب الزوجة. وفعلا هناك، في البيت، منظومة كاملة من الإرتباطات تشتغل بفضل الأبواب المنزلقة. ولكن ربْط جزء من الفضاء بجزء آخر يتمّ قبل كلّ شئ مع الشارع. وبصورة أعم، هناك العديد من الفراغات التي تتوسط الصُّور للربط بين أجزاء الفضاء كلّما غادرت الشخصية الكادر أو تخلّت عنها الكاميرا. يحدث أن تُحدّد لقطةٌ مقطعا ضيّقا من الفضاء كجزء البحيرة الواضح لمّا غمرها الضباب ؛ أو، عندما تَحُول هضبةٌ دون رؤية الأفق، يأتي مشهدٌ طبيعي في لقطة تجنبًا لللقطة السوداء، فيفرض امتدادا للفضاء يختلف عن الإستمرارية. ولكن لا يستقيم الحديث هنا عن فضاء مجزّء مع أن الأمر يتعلق بفصل دائم. ولكن لا بدّ لكلّ مشهد، ولكلّ لقطة، أن يدفعا بالشخصية أو بالحدث إلى أعلى درجات الإستقلالية والحضور المكثف. ولا بدّ لكثافة هذا الحضور أن تصمد وتستمرّ حتى عند سقوطها =0 فلكل شخصية أو حدث كثافة حضوره الخاصّة، ولا يمكن الخلط بينها وبين أي كثافة أخرى، بحيث يكون الفراغ عنصرا مُكوّنا لكل حضور، فيصبح « فعل الغياب » نمطا كامنا في كل حضور (والأمر يختلف كما سنرى ذلك لاحقا مع ما يحدث عند أوزو) (17). وليس الفضاء فضاءً مجزّءا لا سيما أن الأجزاء هذه تمثّل عملية تشكيلِه : لا يتشكل الفضاء بالنظر وإنما بالتمشي خطوة خطوة، علما وأن وحدة التمشي هي المساحة أو الجزء. خلافا لكوروساوا الذي ترجع قيمة الحركة الأفقية في أعماله إلى كونها تلتقي، في الإتجاهين، بأطراف حلقةٍ كبيرة أو أقل كبرا والتي لا تشكل إلا قطبا لها، تتقدم الحركةُ العمودية في أعمال ميزوغوشي شيئا فشيئا في اتجاه محدّد ولكنه لا متناهي، يخلق الفضاء عوض أن يفترضه. أما الإتجاه المحدد، فلا يعني وحدة الوجهة، فالوجهة تختلف باختلاف الجزء، اذ لكلّ جزء متّجَه ( هذا التنوع في الوجهات يبلغ أقصاه في « (新・平家物語, Shin heike monogatari). ليس الأمر مجرّد تغيير في المكان، إنها مفارقة الفضاء المتعاقب كفضاء يتثبت فيه الزمن تثبتا كاملا، ولكن في شكل دالّة لمتغيرات هذا الفضاء : لذلك نشاهد في « حكايات القمر الغامض بعد المطر » البطل يسبح مع الجنية، وتراكم الماء يتحوّل إلى جدول يجري في الحقول، ثم نشاهد الحقول، ثم سهلا إلى أن ننتهي إلى حديقة حيث نلتقي من جديد بالزوجين وهما يتناولان العشاء « بعد ذلك بأشهر » (18).

فالمسألة، في آخر المطاف، تتجاوز عملية ربط الأشياء ببعضها البعض الواحدة تلوى الأخرى، إنها تتمثل في ارتباط شامل بين أجزاء الفضاء. أربعة أساليب تتظافر لتحقيق هذا الغرض وهي، في هذه الحال أيضا، ترسم ميطافيزيقا وتقنية : الموقع المرتفع نسبيا للكاميرا الذي يُحدث زاوية فوقية ويضمن تتطور المشهد في مساحة ضيقة ؛ اعتماد نفس الزاوية في لقطات مرتبطة ببعضها البعض من حيث المكان والتي تخلق انطباعا بالإنزلاق يغطّي التقطع ؛ مبدأ المسافة التي لا تسمح بتجاوز اللقطة المتوسطة وتمكّن الكاميرا من حركات دائرية دون الحدّ من المشهد بل بالعكس مع السعي إلى الإبقاء عليه والتمديد في قوته حتى نهاية الفضاء (كمشهد احتضار المرأة في « حكايات الأقحوان المتأخرة » ( 残菊物語, Zangiku monogatari) ؛ وأخيرا وخاصّة اللقطة المشهد كما حللها نويل بورش، في وظيفـتها الخـصوصية عند ميزوغوشي، ك« لقـطة لفافة » (scroll-shot) تبسط إجزاء الفضاء المتعـاقبة المرتبـطة بناقـلات ( vecteurs) ذات اتجاهـات مختلـفة (أفـضل أمثـلة بالنسـبة إلى نـويل بورش نجـدها في « الأخـوات جيون »     (祇園の姉妹, Gion no shimai) و « شين هايك مونغاتاري » (新・平家物語, Shin heike monogatari) (19).وهذا ما نعتبره أساسيا فيما سمّي بالحركات الغريبة لكاميرا ميزوغوشي : تخلق اللقطة المشهد نوعا من التوازي بين ناقلات ذات اتجاهات مختلفة فتشكل ارتباطا لأجزاء من الفضاء متباينة، يعيد تكوين هذا الفضاء ويضفي عليه تجانسا خاصا جدا. نبلغ حينها الطبيعة القصوى لفضاء الشكل الصغير بفعل هذا التمديد أو هذا التمدّد. وفي الحقيقة ليس الشكل الصغير أصغر من الشكل الكبير. هو « صغير » من حيث عملية تكوينه، أما عظمته فهي ناتجة عن ربط أجزائه ببعضها البعض وعن وضع الناقلات المختلفة في علاقة تواز بينها (مع الإبقاء على إختلافاتها) وعن التجانس الذي لا يتشكل إلاّ شيئا فشيئا. من هنا جاء اهتمام ميزوغوشي، في آخر حياته، بالسينماسكوب، واحساسه بإمكانية استخراج موارد جديدة من هذه التقنية طبق تصوره للفضاء. هذا التصوّر هو اذن تصوّر « التجعيدة » أو الخط المنكسر. والتجعيدة أو الخطّ المنكسر هو علامة خطّ الكون (ligne d’univers) أو خطوط الكون، وهي أقصى ما يكون عليه هذا الجانب من الفضاء. ميزوغوشي هو من أدرك خطوط الكون، خيوط نسيج الكون التي مانفك يرسمها في أعماله كلّها مانحا الشكل الصغير اتساعا لا يساويه اتساع

لا يتعلق الأمر بالخط الذي يضمّ الأشياء في مجموعة كاملة وإنّما بالخط الذي يوصل أو يربط أشياء مختلفة ببعضها البعض ويُبقي على اختلافها. يربط خطّ الكون بين الحجرات الداخلية والشارع ؛ بين الشارع والبحيرة، بين البحيرة و الجبل وبين الجبل والغابة ؛ يربط بين الرجل والمرأة والكون ؛ بين الرغبات والآلام والضلال والمحن والإنتصارات والتهدئة ؛ بين لحظات الكثافة الدرامية باعتبارها نقاط يمرّ منها ؛ بين الأحياء والأموات : ذلك هو خطّ الكون، بصري وسمعي، يربط الإمبراطور العجوز بالإمباراطورة المغتالة، ذلك هو خيط صانع الخزف، في « حكايات القمر الغامض« ، يمرّ بالجنية الفاتنة ليلتقي من جديد بالزوجة الميتة، التي أصبح « فعل زوالها » حضورا مكثّفا محضا : يفحص البطل كل الحجرات ويخرج منها ثم يدخل الفرن حيث تجسّد طيف زوجته من جديد في الاثناء. على كلّ واحد منا اكتشاف خطّ الكون الخاصّ به، ولكن لا يمكن اكتشافه إلا عند رسمه، رسم خطّه المنكسر. تتضمن خطوط الكون، في الوقت ذاته، جانبا مادّيا يبلغ أقصاه في اللقطة المشهد وفي حركة الترافلينغ وجانبا ماورائيا ميطافيزيقيا تمثله مواضيع ميزوغوشي. ولكننا نصطدم هنا بأسوء عائق : عند تلك النقطة بالذات أين تواجه الميتافيريقيا السوسيولوجيا. ليست هذه المواجهة نظرية لأنها تدور في البيت اليابانية أين تخضع الحجرات الداخلية لسلطة الحجرات الأمامية، تدور في الفضاء الياباني حيث تُحدّد مقتضيات النظام التراتبي ربط الأجزاء ببعضها البعض. فكرة ميزوغوشي السوسيولوجية فكرة بسيطة وقوية جدّا في نفس الوقت. بالنسبة إليه لا يوجد خطّ كون لا يمرّ من النساء، أو لا ينطلق منهنّ، مع أن النظام الإجتماعي يعتمد اضطهاد النساء، ويرمي بهن في غالب الأحيان إلى الدعارة المباشرة أو غير المباشرة. خطوط الكون نسوية ولكن النظام الإجتماعي نظام دعارة. كيف يمكنهن، وهن مهدّدات، البقاء على قيد الحياة، المواصلة أو حتى التخلّص؟ في « حكايات الكريزنتيم المتأخرة » إنما المرأة هي التي تجرّ الرجل إلى خطّ الكون، وتحوّل ممثلا حقيرا إلى إستاذ كبير ؛ ولكنها تعلم أن النجاح نفسه سيكسّر الخطّ ولا يمنحها هي إلا موتا موحشا. في « العشاق المصلوبون » الرجل والمرأة الذان يجهلان الحبّ الرابط بينهما لا يكتشفانه إلا عندما يلوذان بالفرار. فيصبح خط كونهما خطّ هروب، خط تلاش، مآله الفشل بالضرورة. رائعة هي تلك الصور أين نشاهد نشأة الخطّ المسكون، في أي لحظة، بنهايته العنيفة. والأمر أدهى وأمر في « حياة أوهارو » (西鶴一代女 Saikaku ishida onna) حيث يصطدم الخط الرابط بين الأم وابنها بحاجز الحراس الذين يدفعونها مرات ومرات بعيدا عن الأمير الشاب الذي انجبته سنوات مضت. وإذا مانفكت أفلام « الغايشا » لميزوغوشي تستدعي خطوط الكون، فإنها لا تستدعيها من خلال « فعل الزوال » باعتباره ما يزال ضربا من الحضور، ولكن من خلال حاجز يقف أمام مصدرها، لا يترك لها مجالا للبقاء إلا في اليأس القديم أو في قسوة االبغاء الحديثة كآخر ملجئ. هكذا يبلغ ميزوغوشي أقصى حدّ في الصورةالفعل :عندما يُفسد عالم البؤس كلّ خطوط الكون لِيُبرز واقعا مفكّك الإرتباط لا وجهة له. وصحيح أيضا أن كوروساوا واجه بدوره الحدّ الأقصى لجانب آخر من الصورةالفعل عندما ارتفع عالم البؤس إلى درجة تجعله يكسر الحلقة الكبيرة ويكشف واقعا من الفوضى لا يمكن أن يكون إلّا متلاشيا (ك« دودس كادن » (どですかでん, Dodesukaden) بحيّه القصديري والذي لا يملك سوى وحدة الحركة الأفقية للأبله الذي يشقّ الحيّ معتقدا انه حافلة كهربائية

 Gilles Deleuze, L’image-mouvement, ed. de Minuit, pp. 261-265 (*)


(17) حول الكثافة وامتداها إلى حدود الفراغ cf. Hélène Bokanowski, « L’espace de Mizoguchi », Cinématographe, n• 41, novembre 1 978 .

 (18)  تحليل هذا المشهد من طرف غودار Cf. Jean-Luc Godard, Bel­fond, p. 113-114.

 (19) Noël Burch, Pour un observateur lointain, Cahiers du cinéma-Galli­mard, p. 223-250

يحلل كل هذه الجوانب ويبين كيف أن اللقطة-المشهد تتضمنها جميعا. لأن هناك بالفعل أنواع شتى من اللقطات-المشاهد لدى العديد من المؤلفين وهي تختلف من مؤلف إلى آخر. وفي تصنيفة الدقيق جدّا لأعمال ميزوغوشي، يرى نويل بورش أنه عقب الحرب، بعد سنة 48 بدأت أعمال ميزوغوشي في التراجع فالتقت من جديد ب »النمط الكلاسيكي » وباللقطة-الشهد على طريقة وايلر Wiler (ص.249) ولكننا نعتقد مع ذلك أن اللقطة-المشهد لدى ميزوغوشي مانفكت تكتسي وظيفة خاصّة بها تتمثل في رسم خطوط كون (lignes d’univers) لا نجد لها صدى، وان كانت بعيدة، إلا في بعض افلام الوستارن الجديدة

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page