بعض ما كتبه جيل دولوز عن أكيرا كوروساوا

ترجمة الطاهر الشيخاوي

بعض الصفحات التي خصّصها جيل دولوز لأكيرا كوروساوا في الجزء الأول من كتابه عن الصورة، « السينما-الحركة » * :

تتسم أعمال كوروساوا بطول النفس ويظهر ذلك في المبارزة والقتال. هذا النفس تمثله سمةٌ واحدة وهي في الوقت ذاته علامة شاملة (synsigne) لأعماله كلّها وتوقيعه الشخصي : لنتخيّل خطّا عموديّا كثيفا ينحدر من أعلى الشاشة وينتهي إلى أسفلها، يقطعه خطّان أفقيان أحدُهما من اليمين إلى اليسار والآخر من اليسار إلى اليمين. إنه النزول الرائع لحامل الرسالة وهو مدفوع باستمرار شمالا ويمينا. كوروساوا واحد من أعظم سينمائيي المطر كتلك التي تهطل غزيرة في « الساموراي السبعة« ، وقد وقع اللصوص في الفخ، يمشون ويجيئون من طرف القرية إلى طرفها الآخر على وقع عدْو الخيول. تُنشئُ زاوية التصوير صورةً مسطّحة تُؤكِّد أهمية الحركات الأفقية المستمرّة. يمكن، بسهولة أكبر، فهم هذا الفضاءالنفس الشاسع إذا رجعنا إلى الطبولوجيا اليابانية، سواء أكان هذا الفضاء ممطّطا أم مقلّصا. فلا ننطلق من فرد للإشارة إلى الرقم والنهج والحارة والمدينة بل، على العكس من ذلك، نبدأ بسور المدينة وننتقل إلى المدينة ثم نشير إلى جانب كبير منها ومنها إلى الحارة وأخيرا إلى الساحة للبحث عن المجهول (13). لا ننطلق من المجهول للمرور إلى المعطيات الكفيلة بتحديده، بل نبدأ بكلّ المعطيات، ونتقدّم نحو ضبط الحدود التي يوجد ضمنها المجهول. الأمر يتعلق، في رأينا، بصيغة واضحة جدّا . ننطلق من الوضعية إلى الحدث : قبل القيام بالفعل، لا بدّ من معرفة كل المعطيات لكي نتمكن من القيام به. يقول كوروساوا إن الصعوبة الكبرى تكمن، بالنسبة إليه، في البداية، « قبل أن تشرع الشخصية في الفعل. لا بدّ أن أفكّر خلال أشهر عديدة للوصول هناك » (14). وفعلا، الأمر صعب لأنه يتعلّق بالشخصية في حدّ ذاتها : لا بدّ أن تتحصّل على كلّ المعطيات. لذلك، غالبا ما تنقسم أفلام كوروساوا إلى جزئين متباينين، جزء يتمثل في عرض مطوّل، وجزء تنطلق أثناءه الشخصيات في الفعل بقوة وبشراسة (« الكلب المسعور » و« بين السماء والجحيم« ). لذلك قد يكون فضاء كوروساوا فضاءً مسرحيا محدودا أين يضع البطل كلّ المعطيات أمام عينيه ولا يكفّ عن النظر إليها ليتمكن من التحرك (« يوجنبو » (15)) ولذلك يتمطّط الفضاء، أخيرا، ليشكّل حلقة كبيرة تربط بين عالم الأثرياء وعالم الفقراء، بين الأعلى والأسفل، وبين السماء والجحيم ؛ لا بد من استكشاف الأحياء الشعبية ولا بدّ، في الوقت ذاته، من عرضٍ يقدّم الأوساط الراقية لرسم هذه الحلقة الواسعة التي يقطعها، جانبيا، قطرٌ يقف فوقه البطلُ ويتحرك وفقه (« بين السماء والجحيم » ).

ولكن لو لم يكن هنالك شئ آخر لكان كوروساوا مجرّدَ مؤلّف مرموق، وسّع الشّكل الكبير، ولأمكن فهمُه وفق المعايير الغربية التي أصبحت كلاسيكية. حينها لن يمثّـل استكشافه للأحياء الشعبية إلاّ فيلما من نوع أفلام الجريمة أو عملا بائسا عن البؤس ؛ فتحيلنا حلقته الواسعة على التصوّر الإنسانوي الليبيرالي الذي توفّق غريفيث (D.W. Griffith) إلى فرضه كمعطى كوني وكقاعدة للمونطاج (وفعلا نجدُ هذا التصوّر عند كوروساوا، فهناك أغنياء وفقراء فُرض عليهم التفاهم والتوافق…). باختصار لو لم يكن هناك شئ آخر، لكانت ضرورةُ العرض، قبل الحدث، استجابةً لصغةِ و.ف. : من الوضع إلى الفعل. ولكن، في إطار هذا الشكل الكبير، تشهدُ العديد من الجوانب على تفرّد عميق يمكن بالتأكيد ربطه بالتقاليد اليابانية المدينة أيضا لعبقرية كوروساوا الشخصّية. أوّلا، لأن المعطيات التي يجب عرضها عرضا كاملا ليست فقط معطيات الوضع. إنها معطيات سؤال مخفي وراء الوضع، سؤال ملفوف في الوضع، يجب على البطل استنباطه ليتمكن من الفعل، حتى يتمكّن من الإجابة على الوضع. ف« الإجابة » ليست فقط استجابة الفعل للوضع، وإنما هي إجابة على السؤال أو على المشكلة التي لم يكن الوضع كافيا لكشفها. وإذا كان هناك قرابة بين كوروساوا ودوستويفسكي فهي تتعلق بالتحديد بهذه النقطة : في عالم دوستويفسكي، لا يولي البطل إهتماما بضرورة الإستجابة للوضع، مهما كانت ملحّة، وهو مدرك لذلك، لأنه يرغب في البحث عن السؤال والبحث عن السؤال أمر أكثر إلحاحا. إنّ ما يستهوي كوروساوا في الأدب الروسي هو بالتحديد الربط بين روسيا واليابان. لا بدّ من انتزاع السؤال من الوضع الذي يحتويه، لا بدّ من اكتشاف معطيات السؤال الخفيّ التي هي وحدها كفيلة بالإجابة عليه، والتي بدونها لا يمكن للفعل أن يكون إجابة. اذن كوروساوا ميطافيزيقي على طريقته، باعتباره اخترع توسيع الشكل الكبير : يتجاوز الوضع لبلوغ السؤال ويرتقي بالمعطيات من مرتبة معطيات الوضع إلى مرتبة معطيات السؤال. حينئذ لا يهمّ إن بدا السؤال أحيانا مخيّبا للظن، بورجوازيا، وليد انسانوية جوفاء. المهمّ هو شكل استنباط سؤال عادي، قوة السؤال أهمّ من محتواه، ومعطياته أهمّ من موضوعه، معطياته التي تجعل منه سؤالا من صنف أسئلة أبي الهول (ٍSphynx)، أو أسئلة الساحرة.

أمّا من لم يفهم، وتسرّع في الفعل، واعتقد أنه يملك معطيات الوضع مكتفيا بذلك، فمآله الموت، موت بائس : في « قصر العنكبوت« ، يتحول الفضاءالنفَس إلى شبكة عنكبوت، يقع فيها ماكبث (Macbeth) لأنه لم يفهم السؤال الذي تملك الساحرة سرَّه، ولا يملكه أحدٌ سواها. الحالة الثانية : شخصية تعتقد أنه يكفي امتلاك معطيات الوضع، فتستخلص منها كلّ النتائج، ولكنها تدرك أن هناك سؤال خفيّّ، تفهمه فجأة فتغيّر قرارها. كذلك الشأن بالنسبة إلى مساعد بربروس (Barberousse)، يفهم عِلميّا وضع المرضى ومعطيات الجنون. يتهيئ للتخلي عن سيّده الذي تبدو له ممارساتُه متسلطةً وباليةً وليست عِلمية بما فيه الكفاية. لكنه يلتقي بامرأة مجنونة ويلمس في شكواها صدى لسؤال جنوني، غامض كلّ الغموض، يتجاوز بكثير أيّ وضع ملموس أو يمكن أن يكون ملموسا. ومع أنه سمع، من قبل، شكاوى مماثلة لدى المجنونات الأخريات، أدرك حينها أن سيّدَه كان « يسمع » السؤال وأن ممارساته كانت تستكشف أبعاده : لذلك قرّر البقاء إلى جانب بربروس (وفي كل الحالات، لا إمكانية للهروب في فضاء كوروساوا). إنّ ما يتبيّن هنا، بصفة خاصّة، هو أن معطيات السؤال تحمل ضمنيا (على) أحلام الأشخاص المعنية وكوابيسها وإنفعالتها وأعمالها، بينما معطيات الوضع تحمل فقط أسبابا ونتائجا لا يمكن مقاومتها إلّا بإلغاء طول النفس الذي يرفع السؤالَ والجوابَ في نفس الوقت. في واقع الأمر، لن يتحقق الجواب إذا لم يتمّ الحفاظ على السؤال واحترامه حتى في الصّور الرهيبة والحمقاء والتافهة التي يتجلّى فيها. من هنا يأتي البعد الحُلمي في أعمال كوروساوا : ليست صورُ الهلوسة صورا ذاتية فقط، بل هي صورٌ للفكر الذي يكشف عن معطيات سؤالٍ متعال، معطيات تنتمي إلى العالم، إلى عمق أعماق العالم (« الأبله »). في أفلام كوروساوا، لا يقتصر التنفس على التداول بين المشاهد الملحمية والمشاهد الحميمية، بين الكثافة الدرامية والهدوء، بين حركة الترافلينغ واللقطة القريبة، بين المشاهد الواقعية والمشاهد اللاّواقعية، وإنما يظهر أكثر في كيفية الإرتقاء من وضعية واقعية إلى المعطيات التي هي بالضرورة لاواقعية لسؤال يسكن الوضع، يخيّم عليه (16).

الحالة الثالثة : لا بدّ، بالطبع، أن تتشبع الشخصية بكل المعطيات. ولكن هذا التشبعالتنفس يختلف اختلافا عميقا مع ما يعني في مدرسة الأكترز ستوديو(actors studio)، لأنه يعود على سؤال ولا يعود على وضع. عوض التشبع بوضع من أجل إنتاج جواب لا يكون إلا عملا منفجرا، يجب التشبع بسؤال من أجل إنتاج جواب يكون حقّا جوابا فكرياوانطلاقا من هنا تشهد علامة البصمة تطورا غير مسبوق. ففي « كاجيموشا » وجب على البديل أن يتحول هو نفسه إلى بصمة وأن يمرّ بوضعيات مختلفة (النساء والطفل الصغير والحصان بصفة أخص). لقائل أن يقول إن الأفلام الغربية تناولت نفس الموضوع. ولكن، هذه المرّة، الشئ الذي يجب على البديل، ظل المحارب، أن يتشبع به هو معطيات السؤال التي لا يعرفها إلا السيّد،  » سريع كالريح، صامت كالغابة، رهيب كالنار وثابت كالجبل« . ليس هذا وصف للسيّد، وإنما هو اللغز الذي يمتلكه ويحمله معه. ذلك ما لا يساعد على المحاكات بل يجعل المحاكات تفوق قدرة الإنسان أو تَضمن لها بعدا كونيا. كأننا نصطدم هنا بحاجز جديد : من يتشبع بهذه المعطيات يصبح مجرّد بديل، مجرد ظلّ للسيّد، خاضعا له. انحدر درسو أوزالا (Dersou Ouzala)، سيّد البصمات الغابية، إلى مرتبة الظل عندما ضعف بصره ولم يعد في إمكانه فهم السؤال الجلل الذي تطرحه الغابة على البشر. قضى نحبه رغم « الوضع » المريح الذي تحصّل عليه. و كذلك الشأن في « الساموراي السبعة » : لمّا استفسروا طويلا عن الوضع ولم يكتفوا بالإطلاع الظافي على المعطيات المادية المتعلقة بالقرية بل اطلعوا أيضا على المعطيات السيكولوجية للسكان، فلأن هناك سؤال أسمى لا يمكن استنباطه إلّا شيئا فشيئا من كل الأوضاع. والسؤال ليس : أيمكننا الدفاع عن القرية ؟ ولكن : ماذا يعني ساموراي اليوم، وبالتحديد في هذه اللحظة من التاريخ ؟ والجواب، الذي يتوفر عندما يتحقق البلوغ إلى السؤال، هو أن الساموراي أصبحوا أظلالا، أشباحا، لا مكان لهم مستقبلا لا إلى جانب الأسياد ولا إلى جانب الفقراء (الفلاحون هم المنتصرون الحقيقيون) هناك شئ من السكينة في هذه الأموات تبشّر بجواب أضفى. الحالة الرابعة تسمح لنا بخلاصة كلّ ما سبق. يطرح « أن تحيا« ، واحد من أجمل أفلام كوروساوا، السؤال التالي : إذا علم الإنسان أنه لم يبق بينه وبين الموت سوى أشهر قليلة، ماذا عساه أن يفعل ؟ وهل هذا هو السؤال الحقيقي ؟ الأمر يتوقف على المعطيات. هل يجب فهم ذلك على النحو التالي : ماذا يجب القيام به لمعرفة المتعة أخيرا ؟ جاب الرجل، مندهشا، مرتبكا، أماكن المتعة، منتقلا من حانة إلى ملهي تعرية. هل هذه معطيات حقيقية لسؤالٍ ؟ أليست في الواقع حركات تافهة ترمي إلى تغطية السؤال وإخفائه ؟ تعلّق الرجل بفتاة شابة فعلم منها أن السؤال ليس سؤال حبٍّ متأخر. ذكرت له مثالها الشخصي، وبيّنت له أنها تصنع أرانب آلية صغيرة، وهي سعيدة بأن ترى هذه الأرانب بأيدي أطفال عاديين وأن تنتشر في أنحاء المدينة. حينها فهم الرجل أن معطيات السؤال « ما العمل؟ » هي معطيات شُغلٍ مُفيد لا بدّ من القيام به. فاستأنف مشروعه المتمثل في تهيئة منتزه، وتجاوز كلّ العقبات التي حالت دون تحقيقه. هنا أيضا يمكن لقائل أن يقول إن كوروساوا يبعث لنا برسالة إنسانية ساذجة. ولكن الفيلم يعني شيئا مغايرا تماما : يعني البحث بإصرار على السؤال ومعطياته من خلال الوضعيات واكتشاف الإجابة مع تقدم البحث. الجواب الوحيد يتمثل في إعادة توفير المعطيات، في إعادة شحن العالم بالمعطيات، وفي تحريك شئ ما، قدر الإمكان، وان كان قليلا، بطريقة تُفرز أسئلة أقلّ قسوة وأكثر بهجة، تنتشر في قرب متزايد مع الطبيعة والحياة، وذلك من خلال تلك المعطيات الجديدة أو المتجدّدة. هذا ما فعله درسو أوزالا لمّا أراد إصلاح الكوخ وتوفير بعض الغذاء حتى يتمكن المسافرون القادمون من البقاء بدورهم على قيد الحياة ومن التنقل. عندها يمكن أن نكون ظلا ويمكن أن نموت : نكون قد أعطينا الفضاء نفَسا، والتقينا بالفضاءالنفَس، ونكون قد أصبحنا منتزها أو غابة، أو أرنبا آليا بالمعنى الذي قصده هنري ميلر عندما قال لو يتحتم عليه أن يحيا من جديد فليحيا من جديد في شكل منتزه.

.Gilles Deleuze, L’image-mouvement, ed. Les Edtions de minuit, pp. 255-261*


(13) Akira Mizubayashi , « Autour du bain », Critique, n » 4 1 8 , janvier 1983, p. 5.

(14) Kurosawa, « Entretien avec Shimizu » , Etudes cinématographiques Kurosawa, p. 7.

(15 ) Luigi Martelli, ib., p. 112 :

كل الحلقات تخضع لمنظور الشخصية الرئيسية (…) سعى كوروساوا إلى إعطاء الأولوية إلى زوايا التقاط الصورة التي تساهم في تسطيح الصورة وتعطينا، في غياب عمق الحقل، انطباعا بأن هناك حركة عرضية. تلعب هذه الأساليب التقنية دورا رئيسيا بمعنى أنها ترمي إلى رسم حكم نقدي، صادر عن بطل يتابع الأحداث بنظرة تتماهى معها نظرتنا

(16) Cf. Michel Estève ( ib . , p. 52-53) et Alain Jourdat (Cinématographe, n 67, mai 1981) :

في تعليقهما على مشاهد هامة في « الأبله » تتعلق بالثلج وكرنفال التزحلق والعيون والمرايا يعتبران أن المشاهد الحُلمية لا تتدوال مع المشاهد الواقعية ولكنها تنبع منها

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page