أشكال ليوسف الشابي، إعادة لا متناهية لاحتراق الذات

بقلم الطاهر الشيخاوي

Il faudra désormais compter avec Youssef Chebbi !

يمكن لمن يعرف يوسف الشابي وتابع بداياته أن يدرك أهمية شريط « اشكال » الذي عرض في قسم « نصف شهر المخرجين ». أن يتم اختياره في مهرجان كان أمر محسوم بل لا يمكن في رأينا ألا يكون الأمر كذلك.

أوّل ما يتبادر إلى الذهن هو درجة الرشد العالية التي تميّز العمل. كأنما سبقته أعمال أخرى عديدة. فيصعب التخيل أنه أول تجربة روائية طويلة لصاحبها. فمدى عمقه الفكري والسياسي لا يضاهيه إلا بعده الجمالي. أهم مقياس، في رأينا، لتقييم الأفلام هو مطابقة رهانات محتواها مع إختياراتها الشكلية، أي درجة تناغم الإخراج مع المضمون.

 « أشكال »، عنوان يحمله الفيلم بأناقة فائقة وصواب مذهل

لننطلق من المنطلقات : يكتسي اختيار الفضاء (الكلمة ضعيفة) أهمية قصوى لأن حي حدائق قرطاج ليس مجرّد إطار مكاني تدور فيه الأحداث، أي لا يعني فقط أنه أفضل مكان يمكن أن تدور فيه هذه الأحداث بل هو « الشخصية » الأساسية للفيلم. أحد الأحياء التي نشأت تحت نظام بن علي، توقفت أشغاله مع اندلاع الثورة ثم استؤنفت مؤخرا. في توقف الأشغال واستئنافها فيما بعد تكمن الدلالة الأساسية للفيلم. عمارات بمثابة « آثار حديثة » كما جاء على لسان يوسف الشابي. « أشكال » هو فيلم مابعد الآثار والكلّ يعلم أهمية الآثار، آثار الحرب بالخصوص، في تحديث اللغة السينمائية وما مثله ذلك على سبيل المثال في الواقعية الجديدة. لكن لا يكفي أن نقول هذا.

لننتبه إلى طريقة تصوير المكان، منذ انطلاق الشريط. فالكاميرا لا تقتصر على تأطير المشهد لتُشكّل الصورةَ وانما هي تتحرك داخله، كأنما تبحث عن شيء ما. هذه الحركة تحمل منظورَ الفيلم بأكمله، فيها تكمن المقاربة وفيها يرتسم التمشي : الفيلم كلّه مساءلة، بحث في فضاء بُني وتوقف ثم أعيد بناؤه. أما ما يسكن الفضاء فهي صورة، شكلٌ، شخصٌ يحترق، أضرم النار في نفسه، شكلٌ لا يتوقف على إعادة انتاج نفسه. من هو ذا الذي يضرم النار في جسده وما هي دوافعه الحقيقية؟

Telle est la question-credo du film

 

من هنا تأتي البقية، من هنا كان لا بد أن تأتي بقية مكوّنات العمل. الشخصيات أوّلا: شرطيان، « بطل » (قديم جديد) شبح من أشباح النظام القديم في إخراج جديد ثم (وهنا يكمن أحد مراكز قوة الكتابة) شخصية فاطمة، شكل جديد جديد، لا تنقطع على سَكن المكان ودلالات هذا السكن اللامنقطع ليست جندرية فقط مع أنها كذلك أيضا… الحديث يطول عن هذه الفتاة ووقع حركاتها في الفيلم. انغلاق وانفتاح، لغز لا يبوح بأسرار أعماقه، مسار في حدّ ذاتها، شخصية لا ينفك المشاهد يتساءل عما يختلج في نفسها

ثم تأتي أشكال المعالجة السينمائية وهي كثيرة، طبقات من أشباح أفلام نعرف أهميتها في تاريخ السينما : يبدأ الشريط كما ينتهي « ألمانيا السنة الصفر » لروسيليني، يبدأ في الخراب والانتحار وينتهي بصور تذكرنا بمسلسلات تلفزية، مسلسلات جيّدة فنية معاصرة وفنيا راقية مرورا بأشياء أخرى، أشكال يمكن لمسها بين الصور : « فرتيغو » لالفريد اتشكوك و »بلو آب » لميكال انجلو انطونيوني وفريتز لانغ وغيرهم. هنا يبلغ العمل قيمته، في قدرة يوسف الشابي على هذا المسح التاريخي، على اختياره لصُور تحمل في طياتها أشباح صور أخرى، لتواكب مساءلته لهذا الواقع، واقع ما بعد الثورة التي لم تنته من انطلاقها في إعادة لا متناهية وغريبة للإحتراق الذاتي، كطريق مفتوح، طريق مرهق، حيث تتحول الإجابة إلى سؤال يقتضي إجابة أخرى لن تكتمل حتى تصبح سؤالا جديدا

انخراط هذا الفيلم المتجذر في فضاء تونسي محدّد جدا، وانخراطه في الوقت ذاته في تاريخ سينمائي كوني يدلّ أكثر من أي دراسة سوسيولوجية وسياسية على الأبعاد الكونية لمجريات الأحداث في تونس اليوم

 Enfin… il faudra désormais compter avec Youssef Chebbi

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page