بعد المهرجان، ملاحظات حول السينما العربية

بقلم الطاهر الشيخاوي

الكل لاحظ أن حضور السينما العربية بمهرجان كان أقوى بكثير مما كان علية السّنة المنقضية، ومن السهل معرفة أسباب هذا الاهتمام الذي قد يبدو مفاجئا للبعض. أغلب متابعي المهرجان يعلمون أن اختيار الأفلام لا يخلو من اعتبارات جيو سياسية ولكن ربما لا يعتقد الكثيرون أو يرفضون الاعتقاد أن الأمر عادي جدّا. لا يمكن لأي مبرمج في أيّ مهرجان كانَ أن يتجنب تأثير السّياق على اقتناء الأفلام وبرمجتها وطريقة تقديمها للجمهور. أما تكرار التّهم فلا فائدة منه سوى الحصاد السهل لمشروعية يعتقد صاحبها أنه في حاجة إليها. المهم في رئينا هو تعامل المبرمج (مع العلم أن الأمر يختلف تماما بين البرمجة الجماعية والبرمجة الفردية) مع السياقات وبالتحديد نسبة المعايير الفنية بالمقارنة مع الاعتبارات الثقافية والاقتصادية والسياسية. وهذا موضوع يمكن أن يكون مفيدا لمعرفة سياسات واتجاهات المهرجانات ولكنه يقتضي تمشيا مختلفا عن تمشي الناقد السينمائي الذي يضع في مركز اهتماماته العمل السينمائي.

لذلك أعتقد شخصيّا ونحن نتحدث عن مهرجان كان بالتحديد،  باعتبارها مؤسسة فرنسية مهتمة بالسينما العالمية، اقتصاديا وثقافيا وفنيّا (في ترتيب تنازلي)، أعتقد أنه من الأفضل استغلال الفرصة للتفكير في بعض القضايا الأساسية المتعلقة بالسينما (العربية في هذا المقال).

ثلاث ملاحظات كبرى يمكن أن نسوقها انطلاقا من ثلاثة أفلام 

الملاحظة الأولى تنطلق من شريط « عائشة لا تستطيع الطيران » لمراد مصطفى الذي أعتقد أن أهميته تكمن في أنّه وسّع مجال الإبداع السينمائي في مصر بالتحديد والعالم العربي بصورة أعم. ما يسمى هنالك بسينما المؤلف تدور عموما حول محورين، الأول هو المحور الأيديولوجي، المناضل، المدافع على قضية ما، وطنية أو اجتماعية، مع أسبقية الوطنية على الاجتماعية. أفضل مثال على ذلك فيلم « العصفور » ليوسف شاهين 

المحور الثاني هو المحور الشّكلاني، الذي يغلب عليه العنصر التشكيلي، الجمالي، حيث تتركز العناية على الاتقان الفنّي الذي يجب أن يترجم قدرة المؤلف على التمكّن من تقنيات اللغة السينمائية ورفعها إلى مستوى « راق ». أفضل مثال على ذلك فيلم « المومياء » لشادي عبد السلام.

كلا الاتجاهين يجب أن يكونا متعارضين مع السينما التّجارية. وقد يلتقيان في فيلم واحد وهو الأمثل. وقد لا يلتقيان فإما أن يكون العمل أيديولوجيا مع عناية فنيّة متوسطة أو ضعيفة أوأن يكون شكلانيا مع عناية أيديولوجية متوسطة أو ضعيفة.

باختصار، يبدو لي أن « عائشة لا تستطيع الطيران » كسّر هذه الدائرة وتجاوز هذا الأفق ذا البعدين. لا أدّعي أنه لم تسبقه محاولات بل يمكن ذكر بعض الأعمال التي سارت في هذا الاتجاه ولكن جرأة مراد مصطفى كانت مرتفعة. أولاّ في كيفية اقتران الموضوع بأسلوبه. فالمواضيع الحارقة كثيرة، حارقة في واقعنا، في حياتنا المعِيشة. ولكن كثيرا ما يصيغها السينمائي صياغة تقليدية متلائمة مع مواضيع تقليدية فتؤدّي إلى نتيجة عكسية.  والأمثلة عديدة.

فإيجاد الصياغة الملائمة تكون إمّا اكتشافا أو بحثا. ونحن هنا (في حال « عائشة لا تستطيع الطيران ») أقرب إلى البحث منا إلى الاكتشاف لأننا في بداية الطريق. يطول الحديث ولكن لنقتصره : أبرز ما في الشريط هو العتمة، استحالة الشفافية في صياغة انغلاق الشخصية. أي أن الأساليب السينمائية المستعملة لا تؤدّي بنا إلى معرفة ما يجول بخاطر عائشة. شخصية مستعصية عن الفهم، مبهمة، فلا مجال لاي شكل من أشكال السببية الواقعية. من هنا جاء التخلّي على نمط السرد السائد واللجوء إلى نوع من السريالية أحيانا وشيء من العجائبية أحيانا. فإذا فسّرنا ما يحدث لعائشة اعتمادا على الرمز (في تحولها لجنس شبيه بالنعامة) ينسدّ طريق الفهم. وفي التردّد بين السريالي والعجائبي دلالة هامة في رأيي. ثم لم يكن النسق الدرامي تصاعديا وإنما مهتزا، ما يعطي انطباعا (ربما من هنا يأتي تحفظ البعض عن العمل أو رفضهم له) بالعرج والخرق. فلا يتصاعد العنف تدريجيا وإنما يحدث متدفقا منفجرا.

الملاحظة الثانية تتعلق بشريط أريج السحيري « سماء بلا ارض » حيث يتمثّل الأمر في خرق التجانس بين الشّخصيات والفضاء الذي يتحركن فيه.

هنا أيضا يكمن التجديد في الصّياغة السينمائية. الموضوع يهمّ مهاجرات في أرض ليست أرضهم. كيف التعبير عن ذلك ؟ في استحالة تأصيلهن في الفضاء. من هنا يأتي ارتعاش الكاميرا وغموض المحيط. اطمئناننا في السينما يتأتى أيضا من فهمنا لعلاقة الشخصية بالمكان الموجودة فيه. الإنسان كائن يمشي على الأرض ويتحرك وفق المكان الذي يجد نفسه فيه اختيارا أو جبرا. فتغيّر وضع الشخصيات يكون مقبولا، وإن كان خطيرا يهدّد حياته، إذا فهمنا بكلّ شفافية علاقته بالمكان، سواء أكانت هذه الشفافية سابقة أم لاحقة. أما إذا أبقى الراوي على الغموض واستحالة تحديد العلاقة، فيفتقد المشاهد الطمأنينة المنشودة التي بُنيت عليها السينما الكلاسيكية. تلاحق الكاميرا الشخصيات ملاحقة دائمة وتلهث وراءهن في محاولة تكاد تكون مستحيلة لمسكهن. خطاب مقلق ولكنه منفتح ومثير. تجدر الإشارة إلى أن « ظل الأب » لأكينولا ديفيز الابن عبّر أحسن تعبير على هذا التمشي ولو على نحو مختلف. فقدرة المخرج تتمثل في تنازله على ادعاء المعرفة المطلقة.

والملاحظة الثالثة تتعلق بشريط الأخوين عرب وطرزان ناصر »كان يا ما كان في غزة ». المسألة سياسية تدور أحداثها في مناطق متوترة جدا. وضع أقصى يضيّق مجال التعبير ويمنع أحيانا التخيّل. كيف يمكن لسينمائي (ربما كان العبء أخف لأنهما اثنان) أن يجد المسافة الكافية لنقل أحداث روائية في سياق مماثل وكيف يمكن للعمل أن يستجيب لمشاهد مانفكّت الأحداث تُوتّر انتظاراتِه؟

الاستحالة، في هذه الحال، موضوعية، استحالة  مواكبة واقع منفجر واستيعابه. الواقع متحرّك في كلّ الحالات (حتى في حالة السلم) وهو أكبر رهان أمام المبدع. كيف يمكنه التقصّي وتجاوز اللحظة الراهنة ؟ التسجيل، وهو أصل الفعل السينمائي، متأخر دوما على ما يسجّله فكيف للخطاب السمعي البصري أن يستبق موضوعه إذا كانت ملامح أو علامات المستقبل غائبة عن اللحظة. ارتكزت إجابة الأخوين ناصر على عنصرين، عنصر السخرية السوداء وهو ما يميّز أهم ما قدمته السينما الفلسطينية هذه السنوات (ويشارك الأخوان ناصر إيليا سليمان في ذلك) وعنصر السخرية الذاتية الذي يتجلى في اللجوء إلى الفيلم داخل الفيلم، عملية تُحيل بالضرورة على عمل الأخوين « كان يا ما كان في غزة » . فاللجوء إلى الفيلم داخل الفيلم جاء في منتصف الشريط بعد موت شخصية اعتقدنا أنها رئيسية، انقسم الفيلم إلى جزئين فلا هروب من الارتباك، وأي محاولة للسيطرة المفرطة على العمل يحكم عليه قطعا بالإعدام. فتتحوّل هنا المسؤولية من سلطة المُرسل إلى سلطة المتلقي.

مهرجان كان لا يعكس بالضرورة وضع السينما العربية ولا يدّعي ذلك أصلا إلاّ أنه يوفر فرصة لمن يرغب في استغلالها ليسائل السينما (هنا السينما العربية ) من خلال ما تسنى من أعمال مع الحرص على مواصلة المساءلة كلّما توفرت الفرص للتأكد من صحتها. ومواصلة البحث… 

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page

Child Porno