القيامة والعميل السري وقيمة عاطفية

بقلم الطاهر الشيخاوي

لا أعتقد أن هناك فائدة في مناقشة قرارات لجنة التحكيم، الأهم هو الكتابة عن الأفلام لأن تداخل الذاتيات المكوّنة للجان مسألة معقدة لا تخضع لخطّ تحريري متجانس يمكن اعتماده في إصدار أحكام أيديولوجية أو فكرية. من السهل التعبير عن السخط ضدّ أصحاب القرار، قد يعطي ذلك مشروعية للناقد، لا كناقد سينمائي وإنما كناقم على المؤسسة في عصر طغت فيه الشعبوية بمختلف اتجاهاتها. ليس كلامي موجّها لشخص بذاته ولا هو درس في الأخلاق. هو فقط توضيح  لتصوّر شخصي للكتابة عن السينما في السياق الخاص بصاحب هذه الأسطر.

لا يعني هذا طبعا الامتناع عن التعليق، فالتعليق أمر عادي بل مستحسن عندما ينطلق صاحبه من تقييمه الخاص للأعمال المتحصّلة والغير متحصّلة على الجوائز ولا يرتكز على نوايا يعتقد أنها مبيّتة

كنا تعرضنا قبل نهاية المهرجان لعدد من الأفلام التي أحرزت على جوائز ولم نتناولها كلّها، فلنواصل حديثنا انطلاقا أولا من تلك التي وردت في قائمة الفائزين.

لنبدأ بفيلم « القيامة » Résurrection . بي غان Bi Gan سينمائي صيني من مواليد 1989، يعتبر من أهمّ رموز الجيل الجديد، لم يدرس السينما، دخل الميدان بفضل إعانة مالية من والدته وتشجيع من أستاذه. اكتشفه جمهور المولعين بالسينما عندما عرض شريطه الطويل الأول « كايلي بلوز » Kaili Blues سنة 2015 بلوكارنو حيث نال جائزة أفضل مخرج صاعد.

فاز هذه السنة بجائزة خاصّة من لجنة التحكيم التي نوّهت بتفرّد أسلوبه في الإخراج. لا شك أن بي غان أبلى البلاء الحسن في هذا المجال. فتميّز عمله ببراعة فائقة، أولى عناية مفرطة بالمكونات التشكيلية للصّورة من أضواء وتركيب . العمل لا يحيل مباشرة على وقائع اجتماعية أو بشرية يمكن للمشاهد متابعتها. الصّورة تحيل على الصّورة، فيلم يروي ان شئنا تاريخ السينما، فكل مشهد يحمل في طيّاته بطريقة مباشرة وفي أغلب الأحيان بطريقة غير مباشرة مشاهد سابقة بارزة في تاريخ السينما. عرض مسترسل ومثير وبارع جدّا للقدرة التعبيرية للفنّ السينمائي في منحاها التعبيري  expressionniste والتجريبي. أهمية العمل تكمن في أن بي غان لم يقتصر على التذكير بلحظات فارقة في تاريخ الفن السّابع بل يذكّر ويحاكي ما يذكّر به في منافسة قد تزعج أحيانا كأنما يرغب في اقناعنا بقدرته على امتلاك اللغة  والسيطرة على أدواتها. والحقيفة أنه توفق في ذلك أيما توفيق.

نال « العميل السري » The secret agent الفائز بجائزة الإخراج اعجاب الجميع. في خامس عمل له يتألق كليبر ماندوسا فيليو  Kleber Mendonça Filho من جديد.  ترجع أحداث القصّة إلى سبعينات القرن الماضي تحت نظام العسكر الدكتاتوري. الخيط الرابط يتابع أستاذا سابقا يلاحقه النظام في نوع من الثريلر، لكن السّرد ينحى أسلوبا رمزيا مُستقيا من التراث (كالساق المبتورة في بطن قرش كبير) ومن المخلوقات العجيبة (كالقط ذي رأسين) في بنية سردية مركبة (تروي الحكاية شابة في 2022) ما يضفي على العمل كثافة دلالية تجعل منه في الوقت نفسه فيلما بولوسيا، سياسيا، تاريخيا، لا يخلو من الكوميديا والخرافة. تألق فائق زاد في توفقه أداء فاغنر مورا Wagner Moura الذي تحصل على جائزة أفضل ممثل.

أما « قيمة عاطفية » Sentimental value للمخرج النرويجي جواكيم تراير  Joachim Trier الفائز على الجائزة الكبرى، فهو عمل متوازن ودسم يخفي أسرارا وأسرارا. أوّل شخصية في الفيلم منزل قديم ومهيب، مشقوق يحكي الشقّ تاريخه، منزل يتجاوز حدود المنزل، كأنما يرمز إلى بيت أكبر، إلى بلد أو قارة، ثم هناك غوستاف الأب الشيخ، سينمائي مشهور، صعب المراس، يرجع إلى المنزل بعد غياب طويل حاملا مشروعا جديدا، يقترح على ابنته الكبرى نورى دور الشخصية الرئيسية، ترفض نورى وكلّها غيض بسبب غياب الأب وقلة عنايته بها. يلتجئ إلى ممثلة مشهورة، تثير بقدومها ذكريات مرّة. طريقة جواكيم تراير تذكر بعالم برغمان حيث يمتزج الحميمي بالكوني والعاطفي بالذهني والسيرة الذاتية بالمسيرة الإنسانية.

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Bouton retour en haut de la page

Child Porno