الجيوسياسي والذاتي، قراءة في مشاهد السفر إلى اسرائيل في « سلطة بلدي » لنادية كامل
بقلم انصاف ماشطة تعريب : الطاهر الشيخاوي
نظمت جمعية مسارب ونادي السينما بوادي الليل يومي 23 و24 جويلية 2021 ورشة حول « الوثائقي والمسألة الديموقراطية ». أثناء الحصّة الثانية المخصصة لنادية كامل والتي نشّطها علي حسين العدوي، طرحت مسألة تقبّل شريط « سلطة بلدي » لمّا عرض في القاعات سنة 2007. وضّحت نادية كامل أنه لم يدرْ الحديث فعلا عن الفيلم أثناء اللقاءات التي جرت منذ 14 سنة، وإنما دار نقاش عام ضروري حول القضية العربية الإسرائيلية. أما نقاش الفيلم في حدّ ذاته والإخراج السينمائي بالخصوص فجاء متأخرا بكثير، أي ما يزيد على عشر سنوات بعد العرض الأوّل. خلال نقاشنا، تمّ التعرض مرّتين على الأقل إلى المشاهد الأخيرة للفيلم، تلك التي صوّرت في إسرائيل. لم يكن الغرض من ذلك إصدار أحكام أو اتّخاذ موقف مع السفر أو ضدّه وإنما فهم الإضافة التي قدّمتها الكاميرا وهي ترافق والدة نادية كامل أثناء زيارتها لإسرائيل التي تحتل، من حيث بناء السردية الوطنية وتفكيكها، المكانة الرئيسية في الفيلم. ومواصلةً لهذا النقاش الذي يرجع الفضل الكبير فيه إلى المتدخلين في الورشة، نعود إلى مقطع الزيارة إلى إسرائيل مع التذكير أنها لم تكن الوحيدة في الفيلم. إذ سبقتها زيارة إيطاليا التي شكّلت، في الصياغة الدرامية للعمل، لحظة في غاية من الأهمية في سردية الانتماء والاقصاء والنفي وانعدام الجنسية. نجد صداها في مقطع إسرائيل وإن اختلف طرح الأسئلة المتعلقة بالرحيل والرجوع كما وردت في نهاية الفيلم
فالجزء الأخير من « سلطة بلدي » جاء نتيجة نقاش عائلي حول مسألة معقّدة جدّا وهي الذهاب إلى إسرائيل لإعادة الروابط مع جزء من أفراد العائلة ورؤيتهم قبل فوات الأوان، لا سيّما أن المعنيات الرئيسيات تقدمن في السّن. ولم يكتس هذا السفر العائلي في أساسه طابعا سياسيا إلّا عندما تجاوز الحدود العادية، لأن المعنية الرئيسية بالسفر شخصية عامّة، الصحفية والمناضلة الشيوعية نايلة كامل، المولودة ماري إيلي روزنتال، المعروفة بمناصرتها للقضية الفلسطينية. فبمجرّد أن تجاوزت السينمائية وأقرباؤها هذه الحدود اهتزّت القناعات السياسية
إلى جانب هذه الرهانات السياسية التي أثارها مشروع السفر العائلي نلاحظ أن المشاهد الأخيرة تميّزت بوجهة نظر رسمتْ مسافةَ مع ما يمكن أن يثيره اللقاء من حنين إلى الماضي. مسافة جدّ سياسية. فلم تقتصر الكاميرا في تصويرها للمشاهد الداخلية في بيوت بناة وأبناء عم نايلة كمال في تل ابيب على تسجيل الآثار النفسية للقاء (التأثر، الحنين، إلخ). اقتراحٌ سينمائي يذكّرنا، بشكل من الأشكال، بتمشي آيال سيفان وميشال خلايفي في « الطريق181 » وإن كان مشروع المخرجين الفلسطيني والإسرائيلي مختلفا اختلافا كبيرا، فالأمر لا يتعلّق بفيلم وثائقي يروي بضمير المتكلم قصّة المخرجين كما هو الشأن في « سلطة بلدي ». في « الطريق 181 » يتابع المخرجان الرسم الإفتراضي للخط الأخضر الذي أضحى خياليا بسبب عدم تطبيق قرار الأمم المتحدة عدد 181، فكان موضوعا للتساؤل حول الأسس القائمة عليها دولة إسرائيل. في الأماكن الداخلية، تُسأل الشخصيات عن ظروف قدومها إلى إسرائيل : تشتغل الذاكرة الوطنية على ذكريات الرحيل والوصول إلى أرضٍ تُقدّمها الدعاية الصهيونية على أنها « أرض بدون شعب لشعب بدون أرض »
مشاهد اللقاء في « سلطة بلدي » تطرح تساؤلا مشابها : في الأماكن الداخلية الثلاثة ( في بيوت سرينا وبيبو وموسى) تلتقط المخرجة روايات مختلفة عن موضوع الرحيل من مصر. تبتعدُ عن الحنين لمصر المتعدّدة الجنسيات كما جاء على لسان أقربائها، وتدعوهم إلى الحديث عن ظروف مغادرتهم القاهرة وتطرح عليهم بعض الأسئلة، فتسلط الضوء على المشاكل المطروحة في مرحلة التأسيس
أوّل قصّة جاءت على لسان سرينة، ابنة عم أمّ نادية كمال. تقول سرينة إن قرار الرحيل اتخذه أخوها بيبو، لأن العيش لم يعد ممكنا بالنسبة إلى أمّها بعيدا عن ابنها. النتيجة كانت أن بيبو جرّ كافة العائلة إلى الرحيل وذلك منذ 1946 أي قبل تكوين دولة إسرائيل ( نكتشف في وقت لاحق من خلال رواية أخرى أنه كان يناضل صلب منظمة صهيونية أسمها ماكابي). هكذا تتمّ عملية التفكيك في خطابٍ يروي سيرَ الأحداث من منظور نسوي، جندري : نساء لا صوت لهن، أمّ عاجزة عن التخلي عن الرجل، تُقرر مرافقته بمعية بناتها في ما لا خيار لهن فيه. أن تأتي الرواية الأولى على لسان امرأة تشرح لنا أن الخيار كان خيار رجل البيت وأن النساء أجبرن على اتباعه، هذا ما يربط بطريقة ما مرحلة التأسيس بهيمنة رجولية. ذلك هو أحد جوانب عملية التفكيك في المقطع الإسرائيلي، ولم يرجع الفضل في ذلك إلى شخصية ما وإنما إلى يقظة المخرجة التي كان التفكيك بالنسبة إليها مسألة انصات وحضور « نقدي » إن صحّ التعبير، ومسألة مونطاج ايضا. تجدر الإشارة كذلك إلى أن هذا الحضور « النقدي » يتحقق بمساعدة والدة المخرجة التي تتحدث إليها سرينا متوجهة في نفس الوقت إلى الكاميرا والتي يرجع إليها فضل هذه الرواية الجندرية للأحداث : فهي التي أعانت سرينا على وجود كلماتها بالفرنسية لمّا استعملت عبارة « رجل البيت » نسبة إلى بيبو. من ناحية أخرى، هناك مقابلة بين التصّور المثالي لمصر الذي تمّ تفكيكه في الجزء السابق للمقطع الإسرائيلي ورواية التخلّي، بعد الوصول إلى إسرائيل : إقامة قصيرة (7 أيام) في مدرسة، تلاها رحيل إجباري ترك المهاجرين لمصيرهم (هنا بالتحديد تتدخّل ماري نايلة كمال لتؤكّد على فكرة التخلّي بأسئلتها الإنكارية) ثم رغبة في الرجوع إلى القاهرة عبّرت عنها الأم وإشارة سريعة إلى أحداث 48 التي سميت بالحرب والتي رافق ذكرها شعور بالضياع. وبالرغم من عدم انخراط سيرينة في دحض هذا الخيار، فلا يوجد في حديثها ما يدلّ على حنين إلى الماضي قد يبرّر مرحلة التأسيس أو الانضمام إلى المشروع. نستشفّ فقط من حديثها أنها رضخت لمصيرٍ تجاوزَها. تميّز حضور ماري كمتقبلة رئيسية لهذا الخطاب بأن تخلّلت شكوى ابنة عمّها أسئلةٌ وملاحظات حملت وعيا سياسيا أكّد عمليّة تفكيك خطاب القدوم إلى إسرائيل
أمّا الرواية الثانية، رواية بيبو، فكانت رجولية وكان ترتيبها مختلفا إلى حدّ ما. من الواضح أن الصّور الملتقطة في بيت سرينا تم التقاطها في لحظات مختلفة، لحظة التأثر عند اللقاء ولحظات النقاش التي كانت أكثر هدوءا بما فيها ما يتعلق بالقدوم إلى إسرائيل. لكن تعاقبت الصور في بيت بيبو كما لو أنها أُلتقطت بدون انقطاع خلال زيارة واحدة. بينما كان الحضور مكثفا في البيت. يدخل الحقل أحدُ أبناء العمّ ليشارك في النقاش مدعّما كلام بيبو. صُوِّر المشهد من زاوية ضيّقة، حتى أنّه تخيّل لنا أن بيبو والمخرجة ابتعدا عن المجموعة. ولكن ذلك غير صحيح لأن المقطع تخلّلته لقطات لأفراد آخرين من العائلة والحال أنّ بيبو ما زال يتحدّث. يتّسع الحقل في آخر الحديث فنكتشف أن بيبو لا يتوجه فقط للكاميرا وإنما كذلك لأمّ المخرجة وأبيها الموجودين أمامه. خلّف تصويرُ حديث سرينا انطباعا بتعاطف نادية كمال عند الإستماع لها، انطباعا مدعوما بانتباه الأم، بينما اختلف الأمر لمّا تعرض بيبو إلى ظروف مغادرته مصر. كان يحاول إبراز الطابع الاستثنائي لتلك الظروف، وضرورة تعجيل الرحيل، 24 ساعة بعد وصول التصريح. تتدخل المخرجة مرارا وتحاول إقناعه بأن العجلة كانت من محض خياله (تأثير لدعاية محتملة؟) وكان عليه أن ينتظر قليلا من الوقت بعد وصول التصريح : كانت تسعى إلى اعانته على الوقوف على هذه العجلة، تتعاقب أسئلتها وترافقها لقطات قريبة تظهر انزعاج بيبو المتزايد وان لم يُبد أي تراجع عن موقفه أو ندم. فيترك تعاطفُ الأمّ في المشهد السابق المكانَ لمواجهة بين بيبو والمخرجة التي تدلّ اسئلتها على اختلاف في الرأي. صحيح أننا نشعر بوجود أفراد العائلة خارج الحقل وأن بيبو يتوجه بالأساس لماري ولكن في لحظة ما، لمّا شرعت المخرجة في طرح أسئلتها، اضطر إلى الالتفات إليها، فأكدت نظراته الموجهة للفوق موقع الكاميرا الفوقي مما يبرز صعوبته على مواجهة مخاطبته. تسعى المخرجة بأسئلتها إلى حمل الشخصية على إعادة النظر للماضي وإعادة تقييم موقفها بمساءلة هذه العجلة. طريقة التصوير ويقظة المخرجة المتواصلة ترميان أيضا إلى الردّ على فكرة عجلة الرحيل 60 سنة مضت بعجلة السؤال حول تلك اللحظة التاريخية لما انقلب كل شيء. وكان ذلك من خلال التقاط سريع لللحظات المشحونة بالتأثر بواسطة كاميرا محمولة باستمرار وقابلة للتحرّك تحت تدفق مشاعر اللقاء بالإضافة إلى ازدحام المكان بالأجساد. يتمّ هذا الردّ في نفس الوقت بتدخل المخرجة وطريقة تصوير الحديث
أحسن مثال على ذلك هو المشهد المصوّر ببيت موسى وإن قلّت فيه تدخلات المخرجة واختلف فيه إعداد التصوير. للحديث عن أم كلثوم وللاستماع لها شعر موسى بالحاجة إلى أن يطلب من نادية مرافقته إلى حجرته التي هي بمثابة « صالون موسقا »ه. هذا الاختلاءُ مَكّن الكاميرا من التجّول في البيت وِفق تحّرك الشخصية. كان موسى بمثابة الدليل، تتبعه الكاميرا من الصالون إلى البيت، يقدّم لنادية أفراد عائلته مستعينا بالصّور المعلّقة على الجدار، تتنقل الكاميرا من صورة إلى أخرى قبل أن تتوقف في اللقطات اللّاحقة أمام موسى وهو يستمع لأم كلثوم. لم يُطرح على موسى أيُّ سؤال ، خلافا لبيبو، ولكن هناك لقطتان حملتا في تلك اللحظة سؤالا تقدمت به المخرجة إلى المُشاهد. نتعرف على بعض أعضاء العائلة (الأحفاد) ونحن نتنقل من صورة إلى أخرى، بإعانة موسى الذي يقدّم، من بين من يقدّم، حفيديه الذيْن كانا مرتدين زياّ عسكريا. الواضح أن الحفيدين ليسا عضوين من العائلة كالأعضاء الآخرين. ذلك ما تقوله لنا طريقة التصوير. تنتقل الكاميرا من صورة إلى أخرى وتتوقف (مرّة أولى) مدّة طويلة أمام صورتي الجنديين، لا تتوقف فقط، وإنما تقوم بحركة زوم مرتعشة كأنما تعبّر عن « صدمة » المخرجة عند اكتشافها هذا الأمر. اختيار الكادر يؤكد أهمية اللّقطة. هي الصورة الوحيدة التي نرى بجانبها جزءا من ستار كأنما توحي بعملية كشف. يصلنا صوت موسى من خارج الحقل (خلافا لللقطات السابقة حيث نشاهد الشخصية وأكثر من صورة). يُدخلنا موسى إلى غرفته لنستمع إلى أم كلثوم. تصوّره المخرجة وهو يستمع، نشرع في الولوج إلى عالم هذا الإنصات ثم تتركه الكاميرا لتصدمنا مرّة ثانية بلقطة فيها صورة الجنديين. تذكرنا هذه اللقطة باللقطة الأولى من حيث اختيار الكادر (ولكن بدون زوم) فنتساءل : ألا يتعلق الأمر بلقطة واحدة قُسمت إلى جزئين. ولكن لا يهمّنا كيف صُنعت اللقطتان، إنهما بُنِيتاَ في توتر بين الحقل وما يسمع من خارج الحقل (صوت موسى في اللقطة الأولى وصوت أم كلثوم في الثانية)……. هذه المقابلة، التقطتها المخرجة في لحظة من الدهشة وركّبتها بإصرار، معتمدة في ذلك أسلوبا حوّلها إلى تساؤلٍ ولّدَ مسافة مع الحنين وفكّكه. من ناحية أخرى نلاحظ تصادما بين صورة الجنديين وكلّ الصّور المأخوذة من الأرشيف العائلي والتي تتواتر في العديد من المشاهد بما فيها المقطع الإسرائيلي، أي، بعبارة أخرى، بين أرشيف الماضي وأرشيف الحاضر. هذه الصّور التي تنتقل من يد إلى أخرى هي ناقلات للحنين، من المفروض أن تلتقط لحظات سعيدة ككلّ الصور العائلية التي نحافظ عليها بكلّ عناية، تحجب الخلافات وتخفي التوترات اليوميّة الكبيرة والصغيرة، سواء تعلق الأمر بتاريخ العائلة أو بتاريخ الشعوب. لكن هناك استعمال آخر للصّورة في الفيلم : بالنظر إلى كيفية ادراجها في المونطاج، خصوصا في ذلك المشهد الهام الذي تقدّم فيه نايلة كامل بطاقة ولادتها لحفيدها نبيل، ترافق الصّورُ خطابا لا يخفي بكل تأكيد التعقيد، لا سيّما أنه موجّه لطفل ابوه فلسطيني وأمّه مصرية، وجب عليها أن تشرح له كل هذا التاريخ. كما لوحوّلَ الفيلم الروايةَ الصامتة لصور العائلة إلى رواية مسموعة
لنعد إلى غرفة موسى. لم يكن البيت مكانا نستمع فيه معه لأم كلثوم فقط، هو كذلك مكان نستمع فيه لرواية لم نسمعها من قبل في المقطع الإسرائيلي من الفيلم. إذا كانت روايات بيبو وسرينا المتعلّقة بالرحيل خالية تماما من ملاحقة اليهود في مصر، فالأمر يختلف تماما مع رواية زوجة موسى. ربما هذا يُفسّر أن رحيل بيبو وسرينا تمّ سنة 1946 قبل نشأة دولة إسرائيل وأن زوجة موسى رحلت خوفا من الملاحقات. هذه الرواية توضّح أرشيف الحاضر الذي تمثله صورة الحفيدين الجنديين وهي طريقة أخرى لإرجاع صدى تلك الصورة، إذ نعود إلى بدايات عسكرة الشرق الأوسط عقب تأسيس دولة إسرائيل وما تبعها من سياسات هووية وقومية اختارت الإنكار وإثارة الشكوك تجاه اليهود والمسيحيين المصريين
مرّت عملية التفكيك عبر روايات الأشخاص الذين ساهموا بطريقة أو بأخرى في نشأة دولة إسرائيل وعبر الأسئلة التي تطرحها هذه الروايات في المقطع الإسرائيلي من الفيلم. وفي المقابل جاءت، كرجع للصدى، إعادةُ النظر في السياسة القومية والهووية المتّبعة من قبل عبد الناصر الذي ضحى بجزء من أبناء البلد. هكذا يتقاطع الجزء الإسرائيلي بالجزء الإيطالي. يقيم المقطع الإيطالى، من خلال سرد روايات الطرد، علاقة بين قصّة نبيل، حفيد ماري إيلي روزنتال، ابن الأم المصرية والأب الفلسطيني من ناحية، والدمار الناتج عن الردود الاعتباطية والهووية على سلب حقوق الفلسطينيات والفلسطينيين من ناحية أخرى. اعتمد تفكيك الخطاب القومي سرديات فردية وإخراجا سينمائيا تعمق في مساءلة السردية العائلية، فحقّق تحوّلا في غاية من الأهمية، ذهب من المطلب الهووي، المبني غالبا على نفي الهوية، إلى المساواة في الحقوق