دونغ جون هو، صاحب السعفة الذهبية، يعيد قراءة مسألة الإغتراب
بقلم الطاهر الشيخاوي
-
فاز اذن « بارازيت » بالسعفة الذهبية وأحقّت لجنة التحكيم في ذلك لمدى عمق الإقتراح الذي يقدمه الفيلم، نقول ذلك ونحن نفترض (وهو رجاؤنا على الأقل) أنها لمست في الفيلم ما لمسناه
لم يفت متابعي المهرجان أن المسألة الإجتماعية تناولتها أفلام عديدة هذه السنة، فبات عسيرا تجنبُها حتى على المخرجين الغير معنيين بها، فيجدر هنا مثلا ذكر فيلم « روبي، ضوء » لأرنو دي بلي شان وهو في المسابقة الرسمية أيضا والذي يختلف تماما عن أعماله السابقة. تواترت المسألة الإجتماعية ولكن فئة قليلة منهم وجدت الصياغة المثلى لها، بل أغلبهم أعاد إنتاج الأشكال التقليدية أهمهم كان لوتش وذلك بالرغم من براعته وقدرته على تطويع اللغة السينمائية لتبليغ رأيه
قصّة الفيلم : عائلة معوزة تتكون من أربعة أفراد، الزوج والزوجة وابن وبنت، يتحركون في فضاء ضيق كانما هم في زنزانة، لا يتمتعون بأدنى الحاجيات اليومية، غير قادرين على توفير أسباب العيش الكريم. يتمكن الإبن بفضل صديق له من الحصول على شغل لدى عائلة ميسورة فيعرض مؤهلات مزعومة في إعطاء دروس خصوصية لابنتهم المراهقة. يتوفق الشاب في كسب ثقة مؤجريه دون أن نتبين جيدا السبب الحقيقي في سهولة اقناعهم، لباقته أم غباؤهم. فيقترح عليهما شقيقته لتأطير ابنتهما الصغيرة مدعيا أن لها باع في فنّ الرسم مشددا على مواهب لا تكسبها أصلا دون البوح بطبيعة علاقتهما العائلية، تُنتدب الأخت فتقترح أمّها كمعينة ثم أباها كسائق بعد ازاحة المعينة والسائق السابقين مخفية بدورها أن المرأة أمها والرجل أبوها. النتيجة : تجد كافة العائلة نفسها تشتغل في مكان واحد، في فيلا فاخرة وتنعم ببقايا ثراء لا مثيل له. ولكن سرعان ما تنفلت الأمور من أياديهم فتنقلب الأحداث و تسير إلى ما لا يحمد عقباه بسبب إزاحة من سبقهم وتأخذ القصّة شكلا من العنف يبلغ أقصاه في نهاية الفيلم
طبعا تفترض هذه الحبكة الدرامية قدرة فائقة على الكتابة وضبطا محكما لتطور الأحداث التي تمر بمراحل عدّة حسب تدرج ماكيافيلي إذ كان على أعضاء العائلة الفقيرة أن يخترعوا في كل مرحلة مناورة جديدة لإقناع أسيادهم بضرورة تشغيل العضو اللاحق، ثم أن يعملوا على اكتساح مجالا أوسع لسيطرتهم على الوضع وتعزيز مكاسبهم و اجتناب الهفوات خاصة بعد اكتشافهم وجود زوج المعينة السابقة في خفايا سرداب الفيلا والذي وجب التخلص منه
طبعا تنكشف المكيدة بسبب تغيير فجئي في سير الأحداث، اذ يعدل أفراد العائلة الغنية عن نزهة كان مقررا أن تأخذ بعض الوقت، يعودون قبل الأوان فترتبك العائلة الفقيرة التي حسبت أنه يمكنها الإجتماع يومها والتمتع بالرفاهية والبذخ وتتحقق هكذا لحظةُ السعادة المنشودة، فتتسارع الأحداث في ضرب من الثريلر الذي ينتهي بمشهد عنيف مرعب
هذا كله يمكن طبعا أن يؤدي بالعمل إلى صنف الأفلام المكتوبة أكثر من اللزوم وتسقط البناية تحت سقف السيناريو ويذوب الإبداع في سيل البراعة الجارف، ولكن لم يحدث شئٌ من هذا القبيل بل سخّر دونغ جون هو مهارته لخدمة الفكرة الأساسية للشريط أي في مساءلة قوانين الصراع الطبقي وعيا منه بأنها لم تعد مطابقة للمنظومة التي رسمها ماركس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتي لا يزال الكثير يعتقد أنها سارية المفعول. فكان الإشتغال على الفضاء أساسيا لا من حيث عمودية الأعلى والأسفل فقط وهي بنية كلاسيكية نعرف كيف اشتغل عليها في عصره جان رونوار وغيره، ولكن بونغ جون هو أضاف عناصر أخرى في بنيته نذكر منها، دائما في سجل الفضاء، القرب الجغرافي وما يتبعه من مجهول، فالعائلتان تسكنان نفس الحي، أو هكذا يبدو الأمر في البداية، مما يسهّل الحركة، حركة الدخول والخروج ويؤسس لجدلية الهوية والغيرية في علاقة مرآوية، ثم يأتي الانعدام التام لمعرفة الناس ببعضهم البعض بالرغم من هذا القرب الموهوم أو بسببه، فغباء الأغنياء لم يفرضه السيناريو بل هو معطى سوسيولوجي مرتبط بتطورات التركيبة المعاصرة لعلاقة الفقراء بالأغنياء وكيفية توزيعهم في الفضاء العام، فلم يتفطن الأسياد ولو لحظة أن المعينة الجديدة هي أم المدرس المزعوم والفنانة المزعومة وزوجة السائق الجديد. أما في البنية الدرامية فقد أضاف دونغ جون هو رجوعَ العائلة إلى خضم الصراعات الإجتماعية كخلية تنظيمية لم يتناولها ماركس بهذا الشكل بل افترض انقراضها لتهيئة ارساء علاقات إنتاج جديدة. تعود العائلة في شكل عصابة ويعكس بالمناسبة المخرج التركيبة الكلاسيلكية لأفلام العصابات حيث تتحول العصابة الى عائلة بينما تتحول هنا العائلة إلى عصابة. فأهمية الفيلم الكبرى تكمن في طرح جديد لمسألة الاغتراب من ناحية وفي إعادة تركيب علاقة المسألة الإجتماعية بالاجناس السينمائية من ناحية أخرى. فبعد الحرب العالمية الثانية اتسعت الاجناس السينمائية كالوستارن والفيلم البوليسي والكوميديا الموسيقية لتحتوي أبعادا سوسيولوجية بحكم التحولات الاجتماعية التي عرفها العالم، ولكن في قضية الحال انقلبت المعادلة فاتسع الفيلم الإجتماعي ليشمل عناصر مختلفة من الأجناس السينمائية الأخرى، وكنا لاحظنا هذه النزعة لدى علاء الدين سليم وأيمن سيدي بو مدين كما يمكن ملاحظتها لدى ماتي ديوب في « أتلنتيك » وكليبر ماندوصا فيلهو وجولياناو دورنيليس في « باكاراو » واللافت أن انقلاب المعادلة هذا جاء بالخصوص من بلاد الجنوب وهي علامة أخرى في مجرى تاريخ السينما
ففيلم بونغ جو هو مزج بين الأمرين، اقترح في نفس الوقت إعادة قراءة مسألة الاغتراب في سياق الصراعات الإجتماعية الراهنة وتمكن من إيجاد الصيغة السينمائية المناسبة، مضيفا لبنة في تاريخ الفن السابع الذي لا يمكن أن يتقدم دون اقتراح صياغات شكلية جديدة مناسبة لقضايا عصره