كان يا ما كان في غزّة، في مهرجان كان، غزة كمان وكمان
بقلم الطاهر الشيخاوي
أوّل ما يلفت الانتباه في فيلم « كان يا ما كان في غزّة » هو تحويل محور النظر تجاه غزة، تجاه أهالي غزّة : ليس من الهين تجنّب حصر الموضوع في العنف المسلّط عليها والانغلاق في دائرة مؤثراته والخضوع لوقعه على النفوس كما يفعل البعض عن سوء نية أوعن حسنها، يختزلون الأمر في الحدث السياسي الذي لا شك أنه، خاصّة في هذا الوقت بالذات، جديرلا فقط بالإبراز بل بفضحه. نعلم (وقد لا نعلم) أن شدّة العنف والهمجية تربك أنظار مناصري الضحايا، فتفتقد الحياة بالنسبة إليهم معناها وتصبح لا حاجة لهم في معرفتها لأن المستهدف ليس طرفا سياسيا بعينه ولكن الحياة بأكملها، حياة مجموعة بشرية تشتغل، تنام وتستيقظ، تحزن وتمرح، تموت وتحيا. تموت وتحيا حتى وان ماتت قتلا (وهو موضوع الشريط)
هذا أوّل ما يقوله الفيلم : تدور الأحداث في مجتمع بعينه، في داخله تتحرك الكاميرا وفيه ترسم معالمه الانتروبولوجية والثقافية والاجتماعية والمعمارية والاقتصادية والإدارية والسياسية، تلتقط كلّ الجزئيات المكوّنة للواقع بأكمله.
الأمر الثاني والمهم : كلّ المعطيات التي تحيل على الواقع، كل ما يشكّل المادّة الوثائقية لا يقدّمها الشريط بصورة عشوائية، رغبةََ من المؤلف في اخبارنا بها. قد يشكّل ذلك عملا في حدّ ذاته يعرّف ب »الثقافة » الفلسطينية بّغزّة ولكنه ينصهر هنا في منظومة مركّبة يقتضيها العمل الروائي في السينما. في كتابة قصّة الفيلم وفي إخراجها سينمائيا.
فالفضاء ليس اعتباطيا، لا تبتعد الكاميرا على الجزئيات إلاّ لسبب ما، اذ تتخلل الفيلم لقطات عامة شاملة للمدينة كلّما تعرضت للغارات. لكن الأماكن محدودة بل محدودة جدّا، أهمها محلّ بيع الفلافل حيث يتم فيه أبرز حدث درامي في الشريط أي اغتيال أسامة، الشخصية الرئيسية الأولى. ثم نكتشف في نفس المحلّ وأثناء العملية المذكورة أننا لم نكن لوحدنا شاهدين على الجريمة فكان يحيى الطالب، الشخصية الرئيسية الثانية، يتابع المواجهة ونهاية أسامة من داخل خزانة ضيقة اختبأ فيها. ثم هناك أماكن أخرى خاصّة جدا لها علاقة مباشرة بالشخصيات المؤثرة لا فائدة في ذكرها كلّها.
أما بالنسبة إلى الشخصيات فأهم ما يجب ذكره هو موت الشخصية الرئيسية والقصّة لم تتجاز نصفها الأول وهو أمر غير معهود. وكلّما طرأ لفتَ الانتباه لما يمكن أن يثيره من خيبة أمل. نحن بطبيعة الحال في مجال سينمائي مختلف اختلافا كبيرا عن السينما الكلاسيكية المبنية على النجوم حيث يصعب اختفاء الشخصية الرئيسية قبل النهاية، ثم في رحيل أسامة عبرة لأن الفراغ الذي تركه كان لا بدّ من ملئه خياليا فعَوّضه يحيى (اسمه أكبر دليل على ذلك). تنحى القصّة منحى مغايرا كأنما انتقلنا إلى فيلم آخر. التحوّل يحمل دلالة مرجعية أساسية في سياق تتوالى فيها اغتيالات الشخصيات وتعويضها بأخرى.
ثم هناك بطبيعة الحال الفعل السينمائي البحت الذي يتجلى بالخصوص في إدراج فيلم في الفيلم. فكرة سينمائية رائعة في واقعٍ فقدَ واقعيتَه. انجاز فيلم في غزة (نتحدث دائما على الفيلم داخل الفيلم) فيه سخرية مضاعفة، سخرية اللعب بالواقع وسخرية نوعية الفيلم، كأنما الواقع لا يحمل ما يكفي من تراجيديا حتى يشعر الغزّاوي بالحاجة إلى تخيّل المزيد من الدراما. يصل العبث إلى حدّه حين يستعمل الممثلون (في الفيلم داخل الفيلم) سلاحا حيا
كيف يمكن إضافة الدراما على الدراما دون اللجوء إلى السخرية، تنقلب حينها الأمور فلا تأتي المفاجئة من السلاح الحي ولكن من البندقية التي يكتشف حاملُها أنها ولاعة سجائر.