قراءة في ارتفاع نسبة الأفلام الإفريقية والعربية بنهرجان كان76
بقلم الطاهر الشيخاوي
هل يمكن اعتبار مهرجان كان مرآة للمشهد السينمائي العالمي ؟ قد يعتقد بعضهم ذلك. اعتقاد، في رأينا، معقول لو سلّمنا بأن المرآة لا تخلو من تشويه لأنها تعكس أيضا رؤية المهرجان، فهي انعكاس مركّب يمزج بين معطيات موضوعية للسينما في العالم من ناحية وتمثلات إدارة المهرجان لها من ناحية أخرى، بل تغلب تمثلات المهرجان على صدق المرآة. ليكن هذا منطلقنا
لاحظ عديد النقاد والمتابعين ارتفاع نسبة الأفلام الإفريقية هذه السنة، وكنّا بدورنا أشرنا إلى ذلك. كما أشرنا إلى أن جلّ السّينمائيين مبتدؤون، سوف نقول عنهم بالضرورة إن اكتشافهم يرجع الفضل فيه إلى مهرجان كان. نذكر طبعا في المسابقة الرسمية المخرجة الشابّة راماتا تولاي سيو وهي أصغر المشاركين في المسابقة الرسمية، ولدت ونشأت بفرنسا، درَست السّيناريو بالمدرسة الوطنية العليا لمهن الصورة والصوت بباريس. « بانيل واداما » هو أوّل عمل طويل لها، تدور أحداثه بشمال السينغال، بفوتا تورو مسقط رأس والديها. يروي الشريط قصّة حبّ بين شابين في سياق اجتماعي وعائلي معاد لهما. يقدّم الملفّ الصحفي الرسمي للمهرجان الفيلم كما يلي : » راماتا تولاي سي تتقدّم للمسابقة الرسميّة ب »بانيل واداما » وهو أوّل شريط طويل لها. رهان كبير بالنسبة إلى المخرجة والسيناريست الفرنكو سينيغالية التي تشارك لأوّل مرّة في مهرجان كان بدراما عاطفية تتناول الحبّ بين زوجين في مواجهة مع التقاليد الاجتماعية « . يَعسر وضعُ الفيلم في مستوى أغلب الأعمال المشاركة في المسابقة الرسمية، ولكنّه يبقى جديرا بالاهتمام. محاولة محترمة في تناول موضوع الحبّ في سياق تقليدي، تتمثل قيمتُها في تواضع المعالجة والابتعاد عن إغراق الموضوع في اعتبارات سوسيولوجية أو ثقافية. يتجلّى تفرّد العمل في بعده الخرافي ونسقه الشاعري وحرص المخرجة على إعطائه صبغة كونية. هذه المسافة الخرافية الشاعرية تتناسب مع علاقة راماتا تولاي سي مع بلدها، فهي نشأت في فرنسا، ما حتّم عليها الموازنة بين وجهة نظر لا داخلية ولا خارجية، في منزلة بين المنزلتين. ثمّ نفترض أن للجانب النسوي في هوية المخرجة دخلا. فكذلك كان الأمر بالنسبة إلى كوثر بن هنيّة مع فارق السنّ والشهرة. تمثيلية متوازنة بين شمال القارّة وجنوبها، امرأة من هناك وامرأة من هنالك فارتفعت في نفس الوقت نسبة النساء في المسابقة الرسمية وبلدان الجنوب.
لكن مهرجان كان لا يقتصر على المسابقة الرسمية التي تمثّل قسما من الأقسام الرّسمية العديدة. فبقية المساهمات الإفريقية تركزت على « نظرة ما » وهي الركن الثاني في الانتقاء الرسمي : ثلاثة بلدان أخرى، المغرب والسودان والكونغو وأربعة مخرجين يتقدّمون بأوّل عمل لهم، مطرب الراب الفرنكو كونغولي بالوجي بفيلمه « النذير » والسوداني محمد كردفاني ب »وداعا جوليا » والمغربية أسماء المدير ب »كذب أبيض » والمغربي كمال لزرق ب »عصابات ». كنّا كتبنا عن هذه الأفلام وحاولنا إبراز ميزاتها ولا يمكن بحال نفي مستواها الفني وأهليتها للمشاركة في المهرجان سواء أتعلّق الأمر ب »وداعا جوليا » وقدرة صاحبها على حبك الحكي السينمائي بما يحيل بعمق على السياق السياسي بالسودان أم ب »كذب أبيض » ومدى جرأة المخرجة في تجريب الوسائل الفنية للنبش في خبايا مسارها الوجودي في قراءة ثرية لمحيطها الاجتماعي والسياسي، كما هو الشأن بالنسبة إلى « عصابات » حيث توفق بالوجي في استغلال قدراته الفنية في مساءلة ثقافته مساءلة عميقة وممتعة في آن واحد. أفلام سيشهد المستقبل على أهميتها ولكن لا يمكن في نفس الوقت اعتبارها تحوّلا في هذه السّينما التي شهدت في شمال القارّة وفي جنوب صحرائها أعمالا ذات قيمة عالية جدّا لم يستغلّ مهرجان كان فرصة نشأتها للتعريف بها. وهو ما يجرّنا إلى مساءلة التظاهرة في حدّ ذاتها. إذ كثيرا ما أُعيبَ على إدارة المهرجان قلّة اهتمامها بما يقدّمه من حين إلى حين المخرجات والمخرجون الأفارقة من أعمال قيّمة والأمثلة عديدة يعرفها متابعو هذه السّينما. القائمة تطول ويمكن الانطلاق من صمبان عصمان رائد السينما الإفريقية وصولا إلى طارق تقية وهو بدون شك رافع راية السينما الجزائرية الجديدة وحتى المغاربية ولا فائدة في ذكرها كلّها. كما أعيب على المهرجان ضعف نسبة تمثيلية النساء في الوقت الذي أبدى فيه مهرجان برلين ومهرجان فينيسيا أكثر انفتاحا تجاه سينما الجنوب.
ستة أفلام طويلة اذن بين المسابقة الرسمية ونظرة ما وهو عدد غير مسبوق
ثم هناك الأقسام الموازية التي ساهمت بدورها في هذا الوجود. ف »أسبوعا السينمائيين » قدّم فيلمين من أهمّ ما شاهدت شخصيا خلال هذه الدورة، « الثلث الخالي » لفوزي بن سعيدي وكنت أكّدت في مقال سابق على أهميته وهو يقترح تعبيرا سينمائيا أكثر جرأة وحرية من تعبيراته السابقة التي كانت دائما لافتة، فالمنعرج الذي سلكه الحكي في الجزء الأخير من الفيلم لم تشهده السينما العربية أبدا ولا حتّى العالمية إذا استثنينا القليل النادر مثل فيراسيتاكول ابيشاتبونغ أو دافيد لينتش. والعمل الثاني هو « مامبار وبيريت » لروزين مباكام، لحظة بارزة في هذا القسم. جرأته في امتناعه الصارم عن استعمال أي أسلوب من أساليب التصوير الرامية إلى التباهي أو إلى الإثارة حتى ترتسم في مخيلة المشاهدة ملامحُ شخصية بييريت وما تمثّله. لو تم اختيار هذين الفلمين في المسابقة الرسمية أو في نظرة ما لوجدنا الأمر طبيعيا. ولكن يبدو أن مقياسي النسوي والعمل الأوّل كانا حاسمين
ثم هناك « أسبوع النقاد » الذي فتح برمجته لفيلم أردني « ان شاء الله ولد » لأمجد الرشيد وهو عمل متوازن، أهميته في مضمونه أساسا. يروي الفيلم قصّة نوال التي يتوفى زوجها فجأة فتجد نفسها وابنتها مهدّدتين بالتخلي عن منزلهما لصالح عائلة زوجها بحكم قوانين بالية. الواقع أن لا يتميّز الشريط بخصال لافتة من حيث المعالجة السينمائية. إلاّ أن أسلوبه الواقعي الكلاسيكي لا يخلو من لطف وكياسة.
أمّا قسم « لاسيد » فهو كذلك قدّم فيلمين واحد من شمال افريقيا « الماشطات » لسنية بن سلامة، وثائقي محترم لا أكثر حول ظاهرة مطربات الزواج بمدينة المهدية والثاني من جنوب صحرائها « ناوم » لصنا نا نهادا من غينيا بيساو، عمل يعيد قراءة تاريخ البلد بعد الاستقلال. مع الأسف لم أتمكن من مشاهدته، علمنا أنه لقي قبولا حسنا لدى النقّاد.
لا يمكن الجزم بأن المسؤولين على مجمل الأقسام اتفقوا على شيء ما ولكن من الواضح أن ثمة اتفاق ضمني حول أهمية السينما الإفريقية يرجع من ناحية إلى عدد من العوامل منها بروز جيل جديد تألّق في عدد من التظاهرات العالمية الأخرى من حيث الجرأة في الاختيارات الشكلية ومن ناحية أخرى إلى تزايد ملحوظ في عدد النساء المخرجات. أمر محمود بدون شك ولكن لا يجب ألّا يخفي هذه الحقيقة : تخلف السينما الإفريقية الراجع أساسا إلى سياسات حكومات لا تعني السينما بالنسبة إليها أي شيء بالرغم من بروز مواهب شابة راقية جدّا، الحقيقة أن تخلّف هذه السينما لا يجب أن يخفي تخلّف مهرجان كان في ابراز هذه المواهب التي تتجاوز بكثير ما سمح به من حين إلى حين أهمّ مهرجان سينمائي في العالم.