غرفة مع إطلالة : بقلم ايمانويل ديموريس
ترجمة الطاهر الشيخاوي
« أن تجد نفسك في حالة من الإهتزاز الشديد، في لحظة انفراج من الاواقعية وشظايا من العالم الواقعي
قابعة في ركن من أركان ذاتك »
انتونان آرتو
ا
أصبحت آلات التصوير الفيديوغرافي صغيرة جدا من شدّة تقلص مكوناتها، فصرنا نحملها في اليد. الأمر الذي مكّن المخرج المستقل من تعزيز استقلاليته وسمح للقطاع الصناعي بخفيض تكاليف إنتاجه، فسعدنا جميعا، اذ يمثل استعمال هذه الآلات تجربة مميزة. تجولتُ عديد المرات للتصوير السينمائي وبالأساس في ميدان الفيلم الوثائقي، فدعاني أمر هذه الكاميرات الصغيرة إلى التفكير. لنبدأ من البداية
أصبح حجم الكاميرا أصغر من أن يحملها المرء على كتفه، فاكتفت اليد والساعد بحملها. وأصبح من العسير ربط العين باليد. فالنظر هو حركة تدفع الجسد إلى الخارج وتجذبه في نفس الوقت إلى الداخل، إلى العنق والظهر أحيانا، اذ يسمتدّ النظر قوته من الصدر حيث يتنفس المرء، فمن الصعب أن يندفع النظر من اليد التي تداعب أكثر مما تنظر.
اذ انتهى بنا الأمر إلى الدفع بأعصاب العين إلى الساعد والأصابع. نتحسس الفكرة، نتحسسها وهي تتنقل في الجسم. غريبة حقا تشنجات الأعضاء التي تنتاب سواعدي وأصابعي في نهاية يوم من التصوير. من الصعب أن أتحوّل إلى راقصة بنغالية.
اليد تلتحم بالآلة بمفردها. لم نعد في حاجة إلى أن نضغط بالوجه على عين الكاميرا لمنع الضوء من ولوجها كما كان الأمر في السابق مع كاميرات الشريط، فيمكن مشاهدة الكادر دون الإلتساق بالكاميرا وذلك من خلال الشاشة الصغيرة المرتبطة بالكاميرا. النتيجة هي أن الجسد، باستثناء الساعد الأيمن، يتمتع بحرية غريبة تمكّنه من التعبير، ثم يُمكن للشخص المصوَّر أن يراك لأن الكاميرا لا تخفيك بسبب صغر حجمها، الشئ الذي يمنحك كممثل هامشا تتحرك فيه خارج الحقل، يمكنك أن تتحدث أو أن تتحرك، ولكن في حدود معقولة لكي لا تفقد الكاميرا توازنها. ولكن هنا يتفكك الجسد : يتحرك الوجه بينما تبقى اليد ثابثة ويختنق الضحك لكي لا يتحرك الكتفان. الفم يتكلم ولكن دون أن ترافقه تلك الحركات التي تتبع ايقاع الكلام. فنجد أنفسنا، كممثلين، مجبرين على نوع من الأداء محدود جدا، ذي قدرة تعبيرية ضعيفة تولّد في أغلب الأحيان عجزا مماثلا لدى الشخص الذي نتحدث إليه ونحن بصدد تصويره. حينها تتقدم اليد اليسرى لمواصلة العمل فتكتشف أنها تملك مهارة بلاغية، فتتحمل، خرقاء، حركات الساعدين والكتفين المكبوتة. يكتسب الوجه واليد نوعا من الإستقلالية، يستمعان بفضلها لما يحدث ويخلقان الحدث ويتقبلانه في الوقت الذي تواصل اليد اليمنى عملية التصوير. يستمرّ الفارق. فتقيس اليد اليمنى، أكثر من الوجه أحيانا، وتُـغير حجم الكادر أو تعزل جزءا منه في الوقت الذي يواصل فيه الوجه الحديثَ عن كل شيء وعن لا شيء أو يواصل الاستماع على نفس الوتيرة، و العكس يحدث أحيانا. اذ يقلب الوجهُ الوضعَ فتصبح اليد اليمنى غير قادرة على شئ إلّا على الإنتظار. هذا التفكك يشتغل باستمرار، فهنالك مسافتان مختلفتان تفصلاننا عن الشخص المصوّر. يحاول الجسد القيام بعمليتين وفكرتين منفصلتين، عملية تخلق الحدث وتُخرجه سينمائيا وعملية تصوّره. لمّا نتبادل الكلام بصوت هافت ذلك لا يعني بالضرورة أننا نرغب في التصوير عن قرب. لأن المساحات تزول في تلك الحالة، فترانا نجرب في كل لحظة تلك الفوارق كما لو كانت أشكالا من فقدان البراءة المتكرّرة، كما لو أدرك المرء أنه لم يعد يشكل وحدة مع ذاته.
ربما هكذا يعيد المرء إعمار ذاته من داخله لمقاومة العزلة التي تولدها الكاميرات الصغيرة. فليس من اليسير تحميل الجسد عملا عادة ما يكون جماعيا، لا بد من المقاومة لكي لا تختلط المسافات، ولا يعدُّ هذا إلا شكل من أشكال العزلة في الشغل التي تولدها الرقمنة والتصغير في حجم الآلات. لقد تغير شكل حركة الطاقات والأفكار داخل الأجسام كما تغير في المؤسسات والبنوك، وكلّما حاولنا معرفة مدى أهمية هذا التغيير في صناعة الفيلم وفي حياته أصابنا الإحباط. السينمائي يمكنه التصوير في استقلالية تامة والمنتير يمكنه تركيب الفيلم لوحده (فالتركيب الإفتراضي يلغي خطة مساعد المنتير) والمشاهد يمكنه مشاهدة نتاج هذا العمل بمفرده أمام التلفاز (أو حسب عبارة جيل جاكوب Gilles Jacob في القطار على شاشة كمبيوتر ) ثم إذا أضفنا إلى ذلك شيئا من مقولات والتير بن يامين Walter Benyamin الرقيقة حول افتقاد القدرة (في العصر الحديث) على تبادل الخبرات، نبدأ فعلا نفكر في الانتحار. ولكن ثمة شئ ما يرفع من معنوياتنا، هو أنه سيكون هناك دائما، لوقت طويل، كائنات بشرية أمام الكاميرا. وربما من هنا وجب علينا أن نبدأ، أي من ضرورة علاقتنا بالآخر حتى نقاوم خطر الإحباط المرتبط بالممارسة المعزولة.
لنعُد إلى التفكّك
قد تُغيّـر اليد اليمنى شيئا ما وقد تُـصحّحه أو تستبق الأحداث بينما لا تقوم العين اليسرى واليد اليسرى بأي شئ ولا حتى بالاستماع. فأنت بوضوح تفكّك الأشياء. ولكن ليس هذا التفكّك واضحا تمام الوضوح في ذهن الشخص المصوَّر الذي يلاحظ الأمر وهو في وضع صعب، لأنه من المسلّم ضمنيا أن يتجانس استعمالك للكامرا وجوبا مع كلامك ومشاعرك بما أنك تتحدّث وتصوّر. فيحدث تباينٌ فجئي يجعل الشخص المصوَّر لا يفهمك جيّدا اذ تراه يتساءل عما يحدث. قد يعتقد أنك تتصرف بطريقة عشوائية أو أنك مجنون. فحين يراك تغادره فجأة مُوجّها الكاميرا نحو شئ آخر قد ينظر إليك في نوع من الحيرة. يشعر أحيانا أنه أخلّ بمهمته التي تتمثل في الإلتزام بالأنتباه أمام الكاميرا. ولعلّ ذلك الحارس بمقبرة في القاهرة وجد حلاّ لهذه المشكلة الشائكة، فلكما ابتعدت عنه الكاميرا تحرّك مسرعا أمامها للدخول من جديد في الحقل المرئي، فأصبح المشهد بمثابة لعبة الغميضة. وغالبا ما وجدت نفسي مضطرة لشرح أسباب هذا الإبتعاد أو ذاك، بينما لم يكن الأمر كذلك لما كنا إثنين أو أكثر بصدد التصوير.
عندما نكون إثنين (أحدنا « يُخرج » وثانينا يلتقط الصوّر) تصبح العمليتان بكل وضوح مختلفتين من البداية، عملية تخلق الحدث وعملية تـُصوّره فلا يمكن لعمليةٍ أن تنسخ الأخرى لأن صناعة الفيلم تنبع من هذا الفصل، أما إذا أدمجنا الوظيفتين وكلفنا بهما شخصا واحدا أصبح الإخراج والتصوير شيئا واحدا، لأن جسد المصوِّر يبدو حينها كتلة ذا دلالة واحدة، تحمل لوحدها معنى الشريط، فتقرأ تعبيرات هذا الجسد على أنها نوايا أحادية المعنى لدلالة الفيلم المقبل. فيسود الخوف لما تتوقف اليد التي تصور والوجه الذي يعبر عن التكرار، وتختلّ علاقة الثقة، وإن كانت الثقة ليست الكلمة المناسبة، لنقل التواطئ أو شئ من هذا القبيل، وحتى التواطئ ليست الكلمة الدقيقة.
****
إن ما أريد تحديده هو بالفعل طبيعة هذه العلاقة، لأن التغيير الذي تسببت فيه منظومة آلات التصوير الصغيرة واستعمالها الإنفرادي يكمن هنا. فهذه الفوارق بين حضور الأشياء وعملية التصوير تثير أسئلة لا تحصى حول نوايا الإخراج، من هنا جاءت الحاجة إلى أخذ وقتا للشرح، قد يكون مُهمّا للبعض وقد يكون مزعجا للبعض الآخر. لكن تبادل الأراء من شأنه أن يغيّر موقف الشخص المصوَّر فيتمكن من فهم تصرفات المخرج إلى حد التضامن و التواطئ. ولكن يبقى هذا التفاهم نسبيا لأنه لا يأخذ في الإعتبار المعنى الناتج عن المونتاج، ومع ذلك فالإتفاق على نوايا إنتاج المعنى يضعنا جميعا في « صف واحد« ، ولكن أيّ صف ؟ هنا يختلف الأمر لأن حدود الاتفاق تتحرك بتحرك اللقاءات، فالعلاقة التي تقوم هنا هي أقرب إلى التواطئ منها إلى الثقة. انخراط وتماهي أكثر منه اتفاق عام ومُسبق.
لما كنت أستعمل في السابق كاميرا معيار 16 مم، كان الأشخاص الذين كنت أصورهم يطرحون عليّ أسئلة قليلة، فكنّا نتوصل بسرعة إلى اتفاق عام إلى حدّ ما. المسألة تتعلق بالقيمة التجارية، أولا لأن حجم الكاميرا تفترض أنك جمعت الأموال الضرورية للقيام بمشروعك على أحسن وجه، فبعضهم يولي هذا الأمر شيئا من المصداقية. هذا الضمان الأول. ثم يثقون في كفاءتك المهنية. هالة غريبة تُـجنبك الأسئلة المتعلقة بحركات الكاميرا. بينما الكامرا الصغيرة الشبيهة بتلك التي نستعملها في أوقات الفراغ للترويح على النفس تثير ردودا مختلفة تجعل الناس يتخيلون أنهم قادرون على أن يضعوا أنفسهم مكانك. من هنا تأتي مطالبتهم بتقاسم نواياك تقاسما تاما حتى في الجزئيات، وهذا يحدث حتى في الأحياء القصديرية في مصر حيث لا يملك أحد آلة تصوير، فالكل يحلم مع ذلك بصناعة فيلم عن حياته الخاصة. تماما كما لو أخرجتَ ألبومات صورك من الرفوف. أصبحنا صحفيين نشتغل على ذواتنا ومازلنا لم ندرك كل تداعيات هذه المسألة، وأقل ما يمكن أن يقال في هذا الصدد أن جهدا كبيرا ينتظرنا للخروج من لعبة المرايا.
الكامرا الضخمة تجعلنا نفترض أنك لا تخفي أي شئ وأنك تحصلت على كل التراخيص الأخلاقية والإدارية الضرورية، أمّا الكاميرا التي يمكنك بكل سرعة وبكل سهولة إخفاؤها في حقيبتك فتحولك إلى سارق صور محتال أو جاسوس متنكر في شكل سائح، أو قد تجعلنا نعتقد أنها آلة للمراقبة تلاحق الناس خِفية، فالجميع يعلم أن أي شئ يمكن أن يتحول إلى فرجة، علما أن الناس لم يتعودوا على أن يصوّر أيُّ سائح أيَّ شئ كما شاء وأينما شاء، وهذا أمر إيجابي. يكاد صغر حجم الكامرا يُـحوّلك إلى شخص سرّي، من أجل الأفضل والأسوأ. في أفضل الحالات يحصل التواطئ وفي أسوئها تتحول إلى عدوّ . إن صغر حجم الكامرا تجعل الناس يشعرون بشئ من البرانويا وهذا مفهوم، فبريجيت روان Brigitte Roüan تروي أنها أخفت آلتها الصغيرة أثناء تصوير فيلم تلفزي لكي تتحصل على مشهد خلفي « وثائقي » يحيط بالممثلين. ولأن أحداث المشهد كانت تدور بحي بيغال Pigalle (حي بباريس معروف بكثافة المومسات) كان هناك أيضا حراس شخصيون مرافقون لفريق التصوير على تأهب شديد تحسبا لطارئ قد يطرأ، فاكتشاف الكامرا قد يثير غضب الكمبارس فاقدي الشغل وكل من يتم تصويره دون علمه. فأتساءل أحيانا ألم يكن الفارق الوحيد بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي هو أن « الممثلين » في الوثائقي لا يتحصلون على جراية. لا أقول هذا من باب الطرفة كما سأبين ذلك لاحقا. فالحد الفاصل بين الروائي والوثائقي بصدد التغيير كما يدلّ على ذلك فيلم « أن تكون وأن يكون لديك » لنيكولا فيليبير Nicolas Philibert. فمهما يكن من الأمر، الواضح أن مجرد الثقة المسبقة والعامة غير كافية، فلا بد من السعي إلى توافق أعمق. إذا حصل هذا الشعور لدى الشخص المصوّر قبِل بالقيام بدوره طبقا لما يعتقد أنها نوايا المخرج كما لو أصبح جزءا من حلمه، فتتحقق حينها إتفاقيات غير معلنة وتوافقات ضمنية كما لو ربطت بيننا الآلة الصغيرة روابط خفية وفقا لقوانين معينة، يحصل ذلك بسرعة وبسرعة فائقة وربما مبالغ فيها، فيجدر التعارف أكثر. عندما يحاول الشخص المصوَّر الولوج إلى حُلمك والذي يعتبره حلما سينمائيا، تشعر أن ما يتبادر إلى ذهنه هو صور تلفيزيونية يتماهى معها. فينشأ مناخ غريب فيه ضرب من الحميمية المباشرة والغريبة، فيمكن تبادل الأسرار مع الوعي أن هذه الكامرا موجودة للتواصل مع أشخاص آخرين، ولكن تبقى هذه الأشخاص مجرّدة لأن الكاميرا ليست إنسانا، فهناك شئ من التكلف يجعل الأمر يتراوح بين الحقيقة والزيف يحمل جانبا من الحميمية ولكن مبالغ فيه، فيصبح التثميل مضخما مما يفرغه من معناه. حميمية متكلفة تفشل في التعبير عن الشعور الباطني كما تفشل في عرض الأشياء في حضورها. في أسوء الحالات قد نسقط في أداء شبيه بأداء ممثلي مسلسل « لوفت » ألذين يحاولون تحقيق ذلك الإنجاز العظيم : إظهار حقيقتهم مع الحرص على الإستجابة إلى ما يعتقدون أن التلفزيون ينتظره منهم، تلفزيون حلمه مسلسل « هيلين والفتية » Hélène et les garçons ». ولكن هذا الصنف من العمل لا يخاطب في الواقع حرية السينمائي وحرية المشاهد المجهولة بل يعرض نفسه على تلصّص مرضي محسوب، يتوقعه الممثل متمنيّا مراقبة نتيجته. ذلك هو منطق التلفزيون الخصوصي. فلا يكفي القول بأن هذا المنطق يوفر فضاءً للتمثيل، هذا لا يكفي لوصفه بل هو فضاء حميمي مغلق يجعلك تشعر أنك في جو عائلي وفي حماية. قد ينفتح هذا الفضاء أحيانا بصورة مفاجئة على فضاءات أخرى في لحظات جميلة يحدث فيها شئ ما نتقبله كهدية خرقاء. إلا أن ذلك نادر جدا. ربما كان هذا المنطق نهاية ما وصفه روسيليني بتلك الرغبة المخيفة في أن نكون « أكثر صبيانية ممكن » أي تلك الرغبة التي تمثل الوجه الخلفي والمتواطئ لقسوة العالم العبثية. الأمر مرتبط بأننا أصبحنا صحافيي (نشتغل على) ذواتنا. هكذا يتكلم سكان باريز على شرفات المقاهي. أمر غريب مثير، اذ ينتابك شعور بأن التلفزيون انتصر من الدّاخل فلا تخرج من طائلة هذا المنطق إلا بعد وقت طويل وتمحيه لتحافظ أحيانا على أجزاء منه وبعض من لحظاته.
أما أثناء التصوير فما يعين على تقويض هذا المنطق إنما هو وجود أشخاص آخرين، شخص يصور وشخص يترجم وشخص يحمل المايكرو1. فكلما ظهر شخص يحمل عمودا طوله متران يحتوي في طرفه مايكروفونا إلا وذكّرك بظروف التمثيل ورسم فضاءه، وذلك مهما صغر حجم الكاميرا، فهو يمثل أيضا مستمعا، وأول شاهد. والأمر كذلك بالنسبة إلى المترجمين، فقيمة تصنتهم ووجودهم تساوي قيمة الكلمات التي يترجمونها. لذلك تقلّ الأسئلة. وهنا أيضا يفترض الناس أنه لا يمكنك أن تفعل شيئا لا معنى له باعتبار أنكما على الأقل إثنان تتقاسمان حلم الفيلم فتتخلص بمزيد من السهولة من الكلام الذي يرغب في الدخول إلى حلمك ولكنه لا يخرج على حدود لعبة المرايا التي تواجه الذات بالذات، وتتوفر أوجه الحضور في العالم وتستقيم الأجساد وترتفع الأصوات فنبتعد عن همس الفضاءات المغلقة فيمكن حينها أن يمتد الحديث بعيدا حتى يبلغ الآخر الذي لا يمكن التكهن بوجوده ويصل إلى الآخرين. نحن لسنا بصدد تقديم وصفة سحرية ولا بسنّ قوانين عامة ولكننا نلاحظ فقط بأن حميمية اللقطة لا علاقة لها بحميمية التصوير فهذه الوضعيات ليست إلا لحظات نعيشها نلتقي فيها بأشخاص آخرين لنعود بعدها إلى ما يربطنا بذواتنا، إلى مواجهة أنفسنا وكنا قد تغيرنا بعد.
يمكن البحث عن كيفية الخروج من مطبّات التواطئ ولكن يجب علينا التعامل مع تصلب موقف الأشخاص المصورين الذين يسارعون بإعلان تواطئهم معنا أو ضدنا لأن التصلب يتأتى من المسافة التي تفصل المصوِّر بالمصوَّر أي من مجمل العلاقة التي تربط بين موقف كل واحد منهما بالآخر. وهذا من شأنه أن يؤثر في العمل. وقد تمكن المخرج بيار كارل Pierre Carles (في شريطه « علم الإجتماع رياضة مصارعة« ) من اللعب على هذه الأشكال من التطرف فجعل منه جنسا سينمائيا، تنحاز الكامرا أحيانا إلى الشخصية (مع بورديو Bourdieu مثلا الذي يبدو في الشريط كمتواطئ أكثر منه كشخصية) وأحيانا أخرى ترفض التواطئ لتلعب « ضذ » الشخصيات، فتختفي ساعية إلى توريطهم (كما هو الشأن في « اذا لن تراه لن تقبض عليه ») فما تقترحه هذه الأفلام هو تواطئ المخرج مع المشاهد للإنحياز أحيانا إلى جانب الأشخاص المصورين إذا احترمهم وأحيانا ضدهم إذا احتقرهم، ولكن لا يمكن القول إن هذه الإملاءات تترك هامشا واسعا لحرية المشاهد. قد نكون بالغنا شيئا ما في تصوير هذا اللعب ولكن غرضنا هو فهم الأسلوب، فتصلب المواقف يتعلق بمجال أوسع من مجال الفيلم الأوطارتقي الذي يعتمد على الكامرا الصغيرة .يمكن مثلا ذكر « بولينج من أجل كولومباين » وإن كان أكثر دقة من فيلم بيار كارل حيث التواطئ مستمر مع المشاهد ضد أغلبية الأشخاص المصورين إذا استثنينا المشهد مع ماريلين مانسون Marilyn Manson الذي أضاء الفيلم و أدخل عليه شيئا من الحركية.
في المقابل هناك التواطئ الدافئ الحميمي والأليف الذي يصل إلى حدّ الإنصهار أحيانا. فمن المؤكد أن هذا النوع من التواطئ ينشأ بأكثر سهولة بين أعضاء الطائفة الواحدة وبما أن الرابط الإجتماعي يتجه نحو الإنحلال، ظلّ يقتصر على العائلة والأقرباء كما لو لم يعد ممكنا تصوير شيئ آخر سوى العالم الخاص بك، والإمثلة تعد بالمئات، يمكن أن نذكر منها : يوميات كابريرا Cabrera أو التحقيق العائلي للابيوفر Lapiower اذ تقدم المخرجتان عالمهما « الخاص » (العشيق والطفل أو العائلة) العالم الذي تعيشان فيه حيث ترتبط كل شخصية من الشخصيات المصورة ارتباطا قويّا بمشروعها (فالعائلة متضامنة مع رغبة المخرج سينمائيا واجتماعيا باعتباره عضو من أعضائها مما يبدّد الحيرة التي يمكن أن تثيرها حركة الكامرا). فأول مجال تواطئ اكتسحه الفيلم الوثائقي في عصر الآلات الصغيرة هو مجال العائلة اذ هي توفر وجوها مؤثرة من كبار العائلة الذين يرتبط بهم المخرج ارتباطا قويا في أقصى درجات التواطئ ( حتى وان قُدّمت لنا هذه الارتباطات على أنها ملتوية أو مرَضية إلخ) فكثر إلى حد كبير عدد الأفلام عن الأباء والأجداد، أفلام تصور عن قرب الوسط الخاص بالمخرج وإرثه الثقافي والإقتصادي والتاريخي. والمفارقة تتمثل هنا في أن هذا العمل الاستكشافي يقدمه أصحابه على أنه يفتح لبدايات تجربة مبنية على التقاسم من شأنها أن تعيد شيئا من تفكك الرابط الإجتماعي. واللافت أيضا هو أن هذه الموجة تطورت منذ عشر سنوات في الوقت الذي تراجع فيه الإلتزام السياسي. لذلك كان من ميزات شريط جايمز جراي James Gray « ذي ياردز » The Yards، ذلك الفيلم الجميل جدّا، هو أنه يبين كيف تتلاعب الرأسمالية المتوحشة الليبرالية المافيوزية بالولاءات وتفككها ولا تترك إلاّ روابط الوسط العائلي المغلق كروابط حامية وأخلاقية. بدا السينمائيون الوثائقيون وكأنهم أبناء أو بناتا، ورثة طيعين أو متمردين مشغولين بقضية الأصل على أنها الإلتزام الوحيد وسط الصحراء، فأضفى « واجب الذاكرة » شرف المواطنة على الرفع من قيمة الإرث العائلي. فكم من حروب عالمية ومحلية ذكرتها الواحدة تلو الأخرى هذه الجدّة العجوز، تلك البطلة البعيدة عن الشكوك التي كانت تقدم لي أحلى معجون الفواكه في صغري…أصبحت هذه الأعمال التي تحاول وضع التاريخ الكبير والتاريخ الصغير في موضع واحد متطابق بطرق مختلفة بطولية أحيانا وسخيفة أحيانا أخرى، أصبحت هذه المحاولات وصفة معتادة في برامج الوثائقي التلفيزيوني، تماما فيما عبر عنه سيرج داني Serge Daney بتحالف المنزل بالصرح أو المحلي بالضخم في توصيفه للتلفزيون. انتشرت الوصفة اتنشارا واسعا، فيمكن أن نتخيل أنها تصبح تمرينا إجباريا في صفوف المعاهد التي تدرس فيها السينما. وربما أصبحت كذلك بعدُ. إن خلط هذه الاشياء بالقوة أمر موجع. الآباء والأجداد يخشون أن تكون نهايتهم شبيهة بنهاية فابريس Fabrice عندما وصل إلى واترلو Waterloo بعد نهاية المعركة (في احالة على رواية ستاندال الشهيرة « دير بارم« ) مع ما في الموقف من راحة وانعتاق أمام التاريخ الكبير. ولكن لما تتحول الذاكرة إلى واجب ألتزمُ حينها رسميا بصناعة فيلم حول كومونة باريز من خلال التجربة المعاشة والحقيقية لآبائي الأعزاء إلا إذا تذكروا جيدا ليلة 4 أغسطس 1792(وهي ليلة سقوط الملكية أثناء الثورة الفرنسية).
في الغالب ليس في حياة جدّتي العزيزة وشخصيتها ما يثير الإهتمام ولكن لا تكمن الأهمية والإحساس في موضوع الفيلم بقدر ما تكمن في الموقع المتميز للراوي وهو يؤكد على جهد السينمائي في تواطئه مع سلفه.
إذ ليس المهم ما تقوله هذه الجدّة أو تلك ولكن المهم أن يلتقط الحفيد أو الحفيدة كلامها وهو يخرج سينمائيا لحظات الصمت وتكسيره للممنوعات ومظاهر الإحتشام (وكلنا نتعجب من الشجاعة التي تطلبه ذلك السؤال ومن كمية حبها لحفيدها). ويمكننا أن نلاحظ نفس الشئ في مجال التاريخ الصغير فأهم شئ ليس العشيق أو ابن كابريرا ولكن إظهار حيرتهما أمام الكاميرا، وهو بالتحديد ما يثير تعاطف المشاهد وإعجابه أو إنزعاجه بسبب إصرار السينمائية على بسط ما يختلج في صدرها وما يدور في محيطها على الطاولة، فنصبح رهائن هذا التواطئ الذي تدعونا إليه في رغبة مجنونة إلى وضع نفسها في أقصى حالة ممكنة من الصبيانية. في مقابل ذلك لنتذكر الأنا في يوميات سفر ستاندال Stendhal وهو يقول إن إلتجاءه لضمير المتكلم كان بغرض « المضي بسرعة أكبر« ، فذهب به الأمر إلى حدّ اختراع هوية وإسم إصطناعي في بداية حديثه بعيدا بعيدا عن « الأنا هو » التي تدّعي معرفة المعطى المعاش الحقيقي.
أما أن يُقترح على المشاهد التماهي مع عالم المصوِّر الداخلي ومع مغامرة التصوير والإمكانيات المخصصة لذلك أكثر من التماهي مع الشخصيات أو الوضعيات المصورة، فهذا يغير الخطاب عن الأفلام بمعنى أنه يؤثر في حقل الخطاب النقدي المتعلق بالإنتاج والتوزيع. ففيلم هيلين لابيوفر جاء على أنه مغامرة مخرجة وممثلة شابة أكثر من أنه يقدم لنا شهادات أشخاص بذاتهم. والأمر أكثر كاريكاتورية بالنسبة إلى « حب وديان » لجانيفير دووركن Jennifer Dworkin. اذ قدمته الصحافة، بالرغم من أهميته، على أن المخرجة قضّت أكثر من عشر سنوات إلى جانب العائلة المصوَّرة في الشريط، ولكن لا علاقة للفيلم بهذا الأمر، فقد تم تصويره مدة سنة ونصف وهو يروي قصّة أم شابة حاملة لفيروس الآيدس وهي تحاول استرجاع إبنها من أيادي المصالح الإجتماعية التي افتكته منها. فنحن في كلمة أمام « لايدي بورد » « Ladybird » (شريط امريكي لغريطا جاروين) أصبحت المسألة معتادة : فكلما رويتَ حادثة حدثت لك أثناء التصوير يقال لك هذا ما يجب تصويره في الحقيقة، وأن ما تتعرض له أهم بكثير من الموضوع الذي اخترته والذي ارتأيتَ أن تختفي باحتشام وراءه. أنا لا أشاطر هذا الرأي. المبالغة في أهمية تجربة المخرج أثناء التصوير تمشي بالتوازي مع المبالغة في أهمية وحدة المخرج على أنها مخاطرة إضافية. وكما قلت سابقا هذا لا يتناسب مع تجربتي إلا إذا اعتبرنا أن فن المخاطرة يتمثل في قفزات خطيرة في فضاء عائلي مغلق.
ا
فالبلاغة في الإخراج السينمائي تفترض أنه من الواجب إبراز عملية فبركة الفيلم متلاعبة ب« مؤثرات الواقع » (والتي يعبر عنها مارك شفري Marc Chevrie ب« مؤثرات المادة الخام« ) في مراهنة على مغامرة التصوير وأدواته، لأنه يفترض أن تدلّ هذه المؤثرات على أن الاستعجال والتأزم والخطأ هم في صالح المخرج. ذلك هو الداء الحقيقي الذي طبع السنوات الأخيرة، فالكاميرا المرتعشة تحتل المرتبة الدنيا في منظومة الأخطاء، أما أنبل الأخطاء فهي أن تخاطب الشخصيةُ المخرجَ فذلك ينم عن صدق الوضعية وأصالتها، كما أن أبسط اختلال في تأطير الصورة يصبح بمثابة السكوب لأنه يَشهد على اهتزاز غير منتظر للمصور والراوي, فبيين لنا السينمائي أنه لا يُزوّر ما يحدث أمامه كما لو كنا في السيرك. وأصبح معيار الميني ديفي هو العلامة ورمز هذا الموقف اذ يقال في هذه الحال إن الآلة المعتمدة متطابقة تماما مع الموضوع. فالغاية من الإخراج هنا هو إبراز التوتر الخاص بالمباشر من حيث أنه يشتغل على إستعجال مستمر يضمن خصوصية الحدث ومن شأنه أن يختطف في أي لحظة إهتمام المشاهد الذي يصبح أسيرا لتشويق محسوب. لقد بدأ هذا النوع من الإبتزاز بالدموع التي سقطت في ستوديوهات الريالتي شو حيث يسعى المنشط إلى كسب تواطئنا لنتقاسم معه انتظاراته. هنا نتقاسم الإنتظار مع الشخص الذي يصوّر، مع الشخص الذي يمنحنا تواطؤه وأسراره. تلك هي القاعدة الأساسية للتلفزيون : كسب ثقة المشاهد في من يصوره. وضعه في مكانة تسمح له بمعرفة ما يدور من أحداث تتجاوز معرفة الأشخاص المصورين وانتظار النهاية. إن هذا الشكل من« التشويق المستمر لمعرفة الواقع » إنما هو سلاح التلفزيون الذي اخترع هذه الشحنة العاطفية القوية لإبقاء المشاهد في مقعده بينما كان استعمال السينما لهذه الورقة ضعيفا لأنها تراهن على مشاهد اختار الدخول للقاعة والبقاء فيها وقتا معينا. ويحق لنا ان نتساءل عما تبقى للمشاهد من حرية في هذه اللعبة، فالتلفزيون مكونة من قيود، ولقد أدرك لارس فون ترير Lars Von Trier إدراكا تاما الفائدة التي يمكنه أن يحصل عليها من هذا النوع من البلاغة في السينما. وما « المعتوهون » إلا مثال على هذا الصنف من البلاغة فهو يعرض أشكالها المختلفة.
أما في ميدان الوثائقي فالابتزاز بلغ أوجه عندما أخضع اختيارَ الموضوع والأجساد المصورة للإيحاء بالواقعية فاستعملها كشهادة في عدم التزوير. اذ تُظهر المسلسلات الوثائقية أشخاصا ينحفون فاقدين وزنهم يوما بعد يوم خلال أشهر. بينما انتصاب العضو التناسلي يشتغل داخل الفيلم الروائي أكثر من الفيلم الوثائقي باعتباره ضمانة أكبر ضد الكذب وإن لم نقدّر تأثير الفياغرا حق قدره .ولكن في الوثائقي قد نقترب في هذه الحالة وبكل وضوح من التيلي ريالتي ولم نبلغ بعد الإتنو بورنوغرافيا، اذ إنني أفضل بكثير النساء الملتحيات في الأسواق الشعبية. لنتذكر جان دانييل بولي Jean-Daniel Pollet وشريطه « النظام » وهو عبارة على نفحة من الهواء المنعش : كانت الكامرا تصور بالأبيض والأسود وجها يصعب احتمال رؤيته لرجل مصاب بمرض الجدري ثم قامت بحركة بانورامية مفاجئة نحو الميكروفون الذي كان يسجل كلامه رافضة اختطاف المُشاهد كرهينة، مذكّرة بظروف التصوير.
بخلاصة أصبح الإخراج يؤكد على الحقيقة ويبرز العناصر المُكونة للخطاب لإضفاء قيمة مضافة عاطفية وفنية على عمل السينمائي بحيث يجعله يقدم نفسه بتفاخر كمؤلف داخل الحكاية. فمفهوم « المؤلف » تغير بطريقة غامضة في حركة وهمية. كانت نقطة الإنطلاق مفهوم « سياسة المؤلفين » الذي جاءت به كراسات السينما وهو يعني أنه يمكن للمخرجين العاملين داخل الصناعة السينمائية ومن أجلها أن يشتغلوا كمؤلفين طبقا لاختيارات في الإخراج وذلك دون المطالبة (أو عدم المطالبة) بمرتبة مميزة نبيلة شبيهة بمرتبة الفنان أو الكاتب. وكان الأمر كذلك مع فورد وهوكس وكابريرا مرورا بكاسافيتز. ولكنه وصل بنا الأمر إلى موقف مناقض تماما حيث أصبح المؤلف يقدم نفسه كمؤلف فيصور نفسه في وظيفته ويذكرنا بذلك مستعملا إيحاءات التلفظ والإمضاء. فأصبحت الأفلام الشبيهة ب« بدون شمس » لكريس ماركر Chris Marker وهي أفلام يتحدث فيها الراوي بضمير المتكلم وتحمل رونقا خفيفا ل« نزوات » و« أهواء » في مسارات السينمائيين، أصبحت هذه الأفلام نماذج لصور بلاغية بالية اجبارية وقواعد لأنماط تليفزيونية، فلم يعد مهما أن يتضمن الفيلم مشاهد شبيهة ببرامج نشرة الأنباء، فيصبح العمل فيلما لمؤلف بمجرد أن يرافقه صوتٌ ينطق بضمير المتكلم ويعبر عن شكوك المؤلف وتناقضاته خاصة عندما تكون مؤلمة وهو أفضل.
ومن حسن حظنا بدأت هذه الصورة البلاغية تتهرأ والموضة تثير الملل، ولكن لا يزال هذا الموقف ذا قيمة في جزء من الخطاب النقدي وفي صلب طلبات الموزعين مما يتسبب في بعض المشاكل عند صناعة الفيلم فأصبح من الضروري بالنسبة إلى السينمائي أن يظهر بافتخار أنه مؤلف، فالأمر يمثل جزءا لا يتجزأ من مقتضيات السوق. لا بد عليه من ضمان ذلك. الرهان يتمثل في أن يصبح الفيلم الوثائقي متوقعا. ولكن أصبحت تبعاته ثقيلة على الأفلام، وبأشكال متعددة.
فكما سبق أن ذكرنا، أصبح الضمير المتكلم ضرورةً لأنه يضمن جانبا كبيرا من الوحدة المنتظرة للعمل. ثم لا بد أن تكون الحالة النفسية للمؤلف في الصدارة لأنه بمجرد معرفتنا للرجل يمكننا رؤية الإتجاه الذي سيسير فيه الفيلم، أما إذا صور أفرادا من عائلته فهو تمكن من التكهن بردود أفعالهم بحكم معرفته لهم. فلا يمكن أن نتخيل أن ترمي جدتك بالكامرا على وجهك… أما الشكل الثاني فهو « وجهة النظر » الشهيرة، وجهة نظر قوية وشخصية يحملها المؤلف في تناول موضوعه، تمكننا من تحديد اتجاه عمله تحديدا متأكدا من بداية الفيلم انطلاقا من إعلان النوايا إلى نهايته، وهنا أيضا يكون علوّ المؤلف وسيطرته على موضوعه ضمانا لمدى توقع نهاية الفيلم، وعبارة « وجهة النظر » تبقى عبارة إيجابية ونبيلة وكاد يكون من الإطراء أن يطلب منك وجهة نظر. ولكن سرعان ما انزلقنا، وهذا جلي في الخطاب النقدي وفي خطاب الموزعين على حد السوى، نحو « الموقف الاخلاقي » ومن الموقف الأخلاقي إلى « ما نريد قوله » ومن هنا إلى « الرسالة« . فهنا كذلك عرفت مفاهيم الموجة الجديدة تحولا خطيرا. وإذا انطلقنا من مولي Moullet إلى ريفات Rivette ومن ريفات إلى غودار Godard نلاحظ أن عبارة « الأخلاق هي مسألة تتعلق بحركات الترافلينغ » (في شكلها هذا وفي شكلها المعكوس) اكتسحت الخطاب المتداول وفقدت معناها الأصلي، فالجميع انتهى بالقول إن بونتيكورفو Pontecorvo ارتكب جريمة لما قلل من خطورة معسكر الاعتقال باستعماله لحركة الترافلينغ التي ضاعفت في البعد الدرامي والتلصّصي، ولكن ما من أحد شاهَد شريط « كابو« … بالتأكيد لا شيء يذكر عن هذا الشريط الذي لا قيمة كبرى له، ولكن تعودنا على تلخيص مغزى الفيلم المفروض بالتقليل من قيمة صورة بلاغية أصبحت علامة له، حتى وصل بنا الأمر إلى اعتبار الأجهزة الفيلمية آليات معروفة مسبقا ترمي إلى انتاج مواقف أخلاقية أو إنتاج موقف أخلاقي للفيلم، فأصبحنا نحلم بوصفة سحرية تتطابق بموجبها النوايا والأفعال فتنتج محتويات الخطاب في نسق مسترسل وطبيعي ولكن بما أن الوصفة غير موجودة وقدرة التحليل الفيلمي غير كافية تجدنا نختلق « درسا أخلاقيا » انطلاقا مما يعبر عنه السينمائي (في تصريحاته الصحفية أو فيما يعلنه من نوايا ) ونستنتج بكل برودة أنها نابعة من الفيلم… فأصبح عاجلا إعادة قراءة ما كتبه سارتر Sartre في تحليله لمعنى « الرسالة » كمفهوم اخترعه لتحييد الأدب أي كمفهوم لا يمكن أن يكون أحادي المعنى ولا يقتصر على نوايا بل كفهوم يتشكل في التقاء حرية الكاتب بحرية القارئ. فمن يمكنه أن يقول لنا ما هي « رسالة » فيلم « الانتصار المر » لنيكولا راي Nicolas Ray أو « موروكو » لجوزيف فون ستيرنبيرغ Joseph Von Sternberg ؟ قد نتعود على اعتبار الفيلم فكرة بينما يحق لنا أن ننتظر التماسها في كل مشهد وفي كل لقطة، فما هي « رسالة » فيلم « النظام » لجان دانييل بولي؟ لا تزال لقطات الفيلم عالقة في ذاكرتي، سواء كانت وجوها أو مناظرا طبيعية، إنها توفر للنظر مساحة من الحرية. جعلتني أنظر أي أفكر نهائيا بطريقة جديدة في الحدّ الفاصل بين المريض والمعافى بينما كان شريط « بولينج لأجل كولومباين » حاملا لمعنى أحاديّ، فبقيت الاطروحة ونُسِيت اللقطات.
إنني لا أجد عبارات أفضل من عبارات سارتر. فاذا اعتقدنا أن السينمائي يصنع فيلمه حسب « رسالة » محددة مسبقا يعني أننا نمنع هذا الفيلم من التعبير عن حرية السينمائي وهو يخاطب حرية المشاهد. ثم علينا أن نضيف في الفيلم الوثائقي حرية الشخص المصوّر.
فما نلاحظه هنا إنما هي ضروريات السوق، نحن نتفهم الموزعين لأنهم يخضعون لنسبة المشاهدة. وقد ينتقل المشاهد من قناة إلى أخرى وكي نحافظ عليه تحتم تمكينه من توقع الأحداث في جزئياتها وفي خطوطها العريضة. من هنا جاء ضم العجلة (في انتظار الدقيقة الموالية) إلى التشويق (في انتظار المغزى النهائي) ذلك أفضل ما توصلنا إليه. وبلغ طلب التوقع درجة نتج عنها تطور ملفت للدورات التدريبية الرامية إلى تعليم السينمائيين كيفية تحرير الملف السحري الذي من شأنه أن يعطي للموزع كل ضمانات التوقع لاقناعه (الكلمة المناسبة هي « لتطمينه »). بحثت في الموضوع. يقولون لك إن الأمر يتعلق بالعمل على قدرة توقع الأحداث في الأفلام والغريب أن هذه القدرة يجب فهمها بمعزل عن صناعة هذه الأفلام و معانيها، هناك « مدربون » يعلمونك كيف يجب الدفاع عن مشروعك باستعمال « المواضيع والرهانات« ، هذيان رهيب في مملكة الحجج المهنية، حيث في النهاية يجب عليك أن تقدم « بيتش » للفيلم، بيتش كأن الكلمة آتية من « بيشينات » (والكلمة تعني نقرة بالفرنسية) وعلى هذا النحو لا يبقى شيئ من حرية الإبداع. ربما فقط نوع من تشخيص الرسالة تشخيصا لاحقا وثانويا. وليس من المتأكد أن يكون هذا التقييم لقدرات التوقع صائبا حتى من وجهة نظر مردودية النظام.
قد يكون سبب تشبّثي بتصوير حي القباري بالإسكندرية هو رفضي لهذا التقدير. فهذا الحي صمد، كل شيء فيه هش وفي درجة من الهشاشة لا تسمح لأي كان بالتنبئ بالمستقبل مهما كان قريبا. لما أخبرت سكان الحي بأنه طلب مني تقدير التنبؤ انفجروا بالضحط، فلم يكونوا هم أنفسهم قادرين على معرفة ما سيقومون به من الغد وكانوا يعلمون أن ذلك جزء من العمل، جزء من اهتماماتي، وكنت تحدثت معهم كثيرا عن معنى الفيلم الوثائقي. إن التلفزيون المصري لا يبث الأفلام الوثائقية إلا نادرا، وأخبرتهم أن الفيلم خال من أي صوت خارجي يقود السرد، فقالوا لي سوف لن يكون اذن الفيلم وثائقيا وانما « حكاية عادية » فيها شخصيات إلخ وبالرغم من محاولاتي كلّها لم يغيروا رأيهم، فأعانني عنادهم على التفكير كلما وجدت نفسي هنا بمعداتي المتواضعة.
ثم إن سحق الأفلام تحت وطأة الرسالة أو « وجهة النظر » كان له تأثير على مفهوم آخر، مفهوم « الواقع » الذي حرّر في الماضي السينما من أنماط الاستوديهات الجامدة، لأنه أصبح اليوم مفهوما يستعمل للتعبير عن اقتران الضرورة الأخلاقية (أي أن يتكلم الفيلم وجوبا عن العالم الحقيقي المحيط بنا) بإخراج سينمائي حقيقي2 لعلامات التلفظ (ذلك الارتعاش الناتج عن المباشر والامتياز الذي يتأتى من معايشتنا للإستعجال والحميمية العالقة به) وأصبح هذا الإقتران عنصرا من العناصر المكونة لوصفة الصناعة التي تصبو إلى عالم السيرك. ففي السينما الروائية أصبحت « الخلفية الوثائقية » بوصفها ضمانة لل« الواقع » مقولة سهلة معهودة تماما كأشكال الاستوديهات التقليدية.
في الحقيقة، الأمران يلتقيان فبقدر التأكيد على عجلة الواقع وعدم انتظامه وطابعه الخام تتأكد الحاجة للأخلاق بهدف ترتيب هذا الواقع، فالفيلم يساعدنا على التفكير أمام هذه الفوضى التي لا تنتظر. يا للسعادة فسيطرة المؤلف في الوثائقي تطمئننا وتضعنا في مأمن وتحمينا بفضل ثقة المؤلف الذي يكشف لنا عن « عالمه » أو « وجهة نظره » التي من شأنها أن تنظم هذا العالم المتفكك مع الأسف، فيحمينا وينقضنا من الفوضى. تكاد الأفلام تكتسي حينها فائدة اجتماعية، وما هي فائدة « دير بارم » اذن ؟
أما إذا ابتعدنا عن هذين المسلكين الذاتيين أي الضمير المتكلم و« وجهة النظر » فسنلجأ إلى العلوم الإنسانية لنطلب منها ضمانة للعالم المصوّر، وهنا نجد أنفسنا أمام سيطرة أخرى، سيطرة تنسج السببية بين الأحداث أو تسمح بالتعميم، تجعل من الأحداث حالات، فيقال إن ذلك يدخل في باب الكونية، كلمة تتكرر كثيرا في مكاتب التلفزيونات مهما كانت القنوات. فنلتجئ إلى الأنتروبولوجيا أو السوسيولوجيا أكثر من أن نلتجئ إلى التاريخ ولن نذكر الأحداث إلا للتدليل على المواضيع والنوايا. إن طريق جهنم معبدة بالنوايا الحسنة، أقول هذا وأنا أتخيل غضب كلينت استوود لما طلب من شخصية الصحافي المسكين أن يقول في لحظة صراع ضد رئاسة التحرير « إن المواضيع قتلت الأحداث« ، فهو يرغب في وضع قصّة الرجل الأسود في سياقها الحقيقي، ذلك الرجل الذي حكم عليه ظلما بالإعدام، فالقصّة تفقد معناها إن لم يتناولها في جزئياتها دون طمسها تحت وطأة موضوع « العنف في الضواحي » أو أي موضوع آخر. إلاّ أن رئاسة التحرير اشترطت موضوعا فلا مكان للأحداث.
إن صناعة الأفلام تأثرت هي أيضا بالتشجيع الذي يحضى به المشروع الوثائقي كلما اقترح تحليلا للأحداث سابقا لها ومسيطرا عليها. فكلما تعلق الأمر بالبحث عن أشخاص تتناسب مع أطروحات الموضوع المرتقب كانت الكلمة المستعملة هي كلمة « كاستينغ » والأشخاص يعبر عنهم ب« الشخصيات« . فيصبح حينها موضوع المكافأة المالية شرعيا بالنسبة إلى الأشخاص المدعويين لتجسيد الموضوع المحدد. من هنا جاءت قضية » أن تكون ويكون لديك« . وكان فيليبير قد صرح أن عثوره على العصفور النادر المناسب لفكرته كلّفه شهورا من البحث، فيمكن أن نتخيل ماذا يعني ذلك لأن مهمة المدرس ليست بالهينة، فهو يجري لقاءات ويتحمل دور المخرج لمّا يدعو الأطفال إلى البوح بأسرار، فيجرهم أحيانا إلى البكاء أمام الكامرا كما يجب عليه تجسيم موضوع السلطة الضرورية تجسيما لطيفا، والأمر ليس هينا فليس من السهل وجود معلم يعاقب بلطف وبشاشة الطفل المبلَّغ عنه ولا يعاقب رفيقة المبِّلغ، وينادي ب« التضامن القروي« ، التضامن الريفي ضد عالم المدينة (المجهول أي المعادي) ويؤكد مباشرة « هنا أنا هو من يقود« . فالأمر مخيف ويمكن إعانتنا على تخيل ما كانت عليه فرنسا تحت حكومة فيشي. المسألة صعبة وصاحبنا لم يَحِدْ عن طريقه فهو مسيطر على صَفّه بيداغوجيا وفيلميا، لذلك كان الأطفال عديمي الحيوية، كلّ في موضعه مندمجين في المنضومة التي وضعها لهم السينمائي والمدرس المنشط. فبعد مدة قصيرة من التصوير أنتجت هذه المنظومة فيلما ماسكا بموضوعه ممارسا مع الممثل رقابة على الأحداث المصورة ومرتبا إياها ترتيبا مطابقا ل« وجة النظر » المطروحة من البداية. وكانت « وجهة النظر » هذه مطابقة في خطوطها العريضة للمواقف الأيديولوجية التي عبر عنها المدرس اذ نراه على الشاشة حريصا على تجانس موضوعه، يشارك إلى حد التواطئ في الإخراج والمراقبة التي يمنحه له هذا الإخراج3. ولن نذرف دمعا أمام ما يحدث الآن من صراعات مصالح، فكيف نعجب منها والحال أن الموضوع يتسم بالأيديولوجية الشعبوية وليست حتى اليسارية.
إن هذه الترتيبات التي يشهدها العالم اليوم أنتجت أشكالا من التحجر مثيرة للقلق، اذ أن هذه الطرق المتنوعة من السيطرة على العمل الوثائقي تشترك في أنها تحدّد موقفا سرديا بعينه يقلّص من عدد الأشخاص الذين يزعمون مسك الحقيقة. ترتكز الافلام الوثائقية على هذا الموقف في سعيها إلمكثف إلى اقتراح خانات يتوزع فيها الأشخاص فرقا وطبقات (« عائلتي » وصانعي الزرابي وجماعة الدوغون والبريتونيون). ورجوعا إلى مسألة العلوم الإنسانية إنني أؤيد بيبر بروك Peter Brook لما يعيب علماء الأنتروبولوجيا على اعتبار أي حركة أو عادة أو شكل تعبيري علامةً مقننة تنتمي إلى ثقافة معينة وإليها فقط، مظيفا أن الفم الذي يقبل والأنف الذي يحتك قد يمثلان عرفين متأصلين في محيطات محددة، ولكن المهم هو ما يعبران عنه من عطف ورقة، ثم يظيف في موقع لاحق أن المسرح يحتل موقعا يمكنه من رؤية أوسع من تلك التي تجعل « الذعر الذي تثيره فينا الأشياء الغير قابلة للتعريف« ، تجعل هذا الذعر يجرنا إلى الإعتقاد بأن التصرف البشري ناتج عن ظروف جينية أو إجتماعية. إنني أعتقد أن السينما الوثائقية مرتبطة بهذا الموقع أي أنها لا تفزع من الأشياء الغير قابلة للتعريف كما أعتقد أنها تتجاوز التناقض الثنائي بين عالم التواطئ ( « عالمي » السري الذي أدعوكم إليه) وقفاه عالم « الآخر » (أي العدو كعالم مضاد أو مخالف عندما ينبني على الخلاف كعامل مؤسس. ولكن هناك مسألة عاجلة تهم الوثائقي، مسألة عنيفة جدا، تتمثل في سوء فهم عميق ما انفك يتزايد بين أنحاء مختلفة من العالم. المخيف في الأمر هو أن التدفق التلفزيوني يشجع سوء الفهم هذا بإنتاج كليشيهات تنبني على الإختلاف الوطني والعرقي والديني وتقلل من قيمة الأشخاص عندما تظهرها كنتاج لهذه المحددات. تبين لي ذلك أثناء تحقيقات قمت بها في حوض البحر المتوسط. الكل يعمم كما يشاء بناء على هذه الإختلافات والفرق وذلك مهما كانت الطبقات الإجتماعية. إن تمثلات الآخر التي لا نعرفها عمليا تمر بمعدل 95 بالمائة عبر الصور التلفزيونية التي ترتّب وتعزل هؤلاء « الآخرين » حسب معايير هووية. كنت دوما حذرة في ما يخص مفهوم الهوية لأنه يقلل من شأن البشر ويجمّد صورتهم، لأن استعماله الآن يفزعني فنصبح غيتوهات وأقنعة. علينا أن نسلم بأن كل كائن بشري يحمل عددا من الهويات تساوي عدد ذراته.
ولكن لقائل أن يقول لي : إن كنت لا تحبين المسببات الانتروبولوجية والمقولات السوسيولوجية وإن كنت لا تحبين أصوات الرواة الخارجة عن الصورة والمتحدثة بضمير المتكلم وإن كنت لا تحبين أفلام النتديد وإن كنت لا تحبين مؤثرات المادة الخام فاذهبي …. طبعا لا. فلا وجود لعامل سيئ في حد ذاته، أقولها وأكررها دوما. أردت فقط ذكر بعض المواقف والأساليب التي تجمّدت اليوم في ظل الإنتاج الراهن، وكذلك في علاقة بالآلات المستعملة، ولكن هذه المظاهر من التحجر تتطلب منا مواقف مضادة في نفس المستوى من الصلابة، لذلك استحضرُ أعمال يغير أصحابها المسافة التي تفصلهم عما يصوّروه، استحضر سينمائيين يتيحون من خلال هذه المسافات للمشاهد حرية الإستيلاء على الحدث لقراءته قراءة خاصة به، استحضر مقطوعة فالس لفريديريك شوبين، في المستوى الخلفي للصوت، وهي ترافق بإلحاح حوار رجل وامرأة أمريكيين متعصبين في شريط فاتح اكين « من الجهة الأخرى « ، تقربهما منا وتبعدهما عنا في الوقت ذاته. غريب أمر هذه المقطوعة، كم هي ملحة، كم هي تُبقي في ذاكرتنا هذا الرجل وهذه المرأة، فلا قدرة لنا على قبولهما ولا الحكم عليهما. إنها تثير فينا حزنا أقل من الحزن الذي يثيره فينا التواطئ المتسلط لشريط مايكل مور Michael Moore لأنها تشتغل على ديمومة اللقطة وهي بالتأكيد شكل من أشكال الصمود أمام تدفق الصور، لأنها طريقة تمكن من امتلاك الزمن. ولكن هذا غير كافي وليس شرطا وضروريا، ليست بديهية، إنها فقط سلاح من بين أسلحة الصمود.
فلا وجود فقط للديمومة كما هو الشأن في افلام شانطال آكرمان . ثمة أيضا تلك التعديلات الطفيفة والمتواصلة في المسافة أو كذلك تلك المسافة المزدوجة، مسافة داخلية ومسافة خارجية. إن هذه التغييرات في المسافة ضرورية لأنها تأكد على الأشياء المصورة، إنها حركات ترافلينغ تجري على الحدود، زلاّت لسان، أجسام، سيارات. فبقدر تأكيدنا على الأشياء وتحويلها من مكانها نتمكن من إعادة اعتبارها، نعيد إحيائها في وسط مختلف يحددها من جديد. وكما قال جورج فرانجو Georges Franju ، إن ذلك ينزع عنها شكلها المنمّق فيجعلها تسترجع طابعها كأشياء. وتصبح رؤيتها ممكنة. نلاحظ نفس الحركة لدى جان دانييل بولي، اذ لم أشاهد في حياتي قط مثل هذه الحدود، وخلافا لما يقوم به مايكل مور في أعماله حيث كثرة الأشخاص والأشياء تخلق ضربا من الدوامة، يصوّر بولي الشئ القليل ولكنه يركز على المشاهد الطبيعية والأشخاص. فإن لم يحلُ لنا ذلك يمكننا اعتباره مجاملة. إن التأكيد على الأشياء يمكنها من الصمود ويغير المسافات ويترك للمشاهد المكان والزمان الكافيين لوجود المسافة الخاصة به.
يمكن أن نقول نفس الشئ بالنسبة إلى شخصية فاندا كما يصورها بيدرو كوستا Pedro Costa، فلا نكفّ على مشاهدة هذه الفتاة في حجرتها وهي مريضة، تتحدث لوحدها وتستهلك المخدرات. تتغير المسافة فننتقل من التواطئ إلى مسافة كيلومترات. فاندا ليست عالمَ« ه« ، أعني عالم بيدرو كوستا، لكي يفتح لنا نافذة منه، إنه جزء غير منتظر من عالم وجد كوستا نفسَه أمامه، فتفاعل معه بطرق مختلفة. إنه لا يتظاهر بمقارنة نفسه بها ولا يحاكي حالة السكر التي هي عليها، فهو يقف أمامها، تماما أمامها، هنا ثابت في مكانه، تفصله عنها مسافات مختلفة. نحن نشعر بوجوده، بوجود كوستا، صانع الفيلم، نشعر أحيانا أنه قريب جدا من فاندا بينما الكامرا موجودة على مسافة أبعد، ثابتة. لسنا في حاجة إلى الإستماع إليه، إلى بيدرو كوستا ولسنا في حاجة إلى رؤيته، بل بالعكس لأن غيابه يمكّن الفتاة من الوجود ويعبر عن تقديره لها. زمن طويل وعنيف كزمن اللقاء، الزمن الضروري لتغيير نظرتنا ونزع الأقنعة المُعمِّمة ل« فتاة الضواحي » للفتاة « المخدرة » أو « بائعة الضواحي« . فاندا مصوّرة كما هي في وضع معين وراهن وليست مصورة كتجسيد محتمل لموضوعٍ ما في « الوسط » الذي تعيش فيه. فكلامها إنما هو « حوار » يدور في وضع معين وليس خطابا. ثم في لحظة مدهشة يتحول كوستا كيلومترات بعيدا عن حجرة فاندا متعاليا أو يكاد. تقول فاندا إنه يمنع من هنا فصاعدا وضع الزهور الطبيعية في المقبرة. وتظيف إنه ليس لنا الحق إلا في حمل الزهور الإصطناعية. إنها اللحظة الوحيدة التي يغادر فيها كوستا الحي لتصوير المقبرة، فنشاهد لوحةً كتب عليها أنه يمنع وضع الزهور الاصطناعية، ومع ذلك لا يقيم أي شكل من أشكال التواطئ مع المشاهد على حساب فاندا. وهذا يعني أن المسألة ليست ميكانيكية، فانطباعنا هو أن كوستا يشير إلى شئ ما يدور بينه وبين فاندا وليس حقيقة مفترضة تتعلق بشخصيتها. فأنا لا أجد تفسيرا كافيا لهذه اللحظة ولهذا السخاء في تصوير اللوحة.
لا تقتصر فاندا على كونها موضوعا أو هوية، وهذا من شأنه أن يغسل أعيننا التي كثيرا ما تعودت على اعتبار الأشخاص أو على تصويرهم من خلال وظائفهم المهنية فقط. فكلما عرضنا صورا وثائقية سُئلنا : « ما هي وظيفته ؟« . هل تكمن الحياة في الوظيفة ؟ أتذكر أنني قمت بتحقيق مع مومسات نهج سان دوني لغاية عمل لاحق، وكان موضوع التحقيق هو كيف يتقاسمن مناطق باريس ليلا، ولم نكتف بالمومسات. قالت لي واحدة منهن وهي شقراء ومتقدمة شيئا ما في السن إنها مستعدة للحديث معنا ولكن على شرط أن لا نسألها عن شغلها، وأضافت أنه لو تعلق الأمر بفرنسوا ميتران مثلا لما طلبتُ منه ماذا يعني له أن يكون رئيسا للجمهورية بل سألتُه عن رأيه في موضوع هام. بقي كلامها عالقا بذهني.
في خصوص التعديلات في المسافة والحريات المتاحة، ترك فيلم « من الجهة الأخرى » أو « في حجرة فاندا » شيئا من الغموض في ما يعرضانه. لا يجعلاننا نعتقد أننا نرى الشخصية كّلها أو المشهد بكامله أو أن كل ما نشاهده واضح كامل الوضوح وقابل تماما للتأويل. يبدو لي أن جواو سيزار منتيرو João César Monteiro يمثل نموذجا لهذا الموقف فهو يؤ كد أيما تأكيد على ذاته ويغير بشكل عجيب المسافات منتقلا من التواطئ إلى اعتبار نفسه غرييبا تمام الغرابة، فيتيح لي هذا التغييرُ المساحةَ والحرية اللازمة لإجابته والتحدث إليه. إن اللذة التي أشعر بها عند مشاهدتي لأفلام منتيرو هي لذة الحوار. اذ أجد نفسي أفكر وأنا أشاهد هذه الأفلام، أفكر بعجل وأجمع أفكاري فأجيبه إلى درجة أنني أفقد خيط الحكاية، فأعيد مشاهدة الفيلم حتى أتمكن من رأيته بالكامل. أتكلم في داخلي طوال مرور اللقطات دون أن أدري من منا يتكلم أكثر من الآخر، مع أنه طليق اللسان كثير الكلام.
آكرمان–كوستا–منتيرو. Akerman, Costa, Monteiro تمر تغيراتهم الحرة للمسافات من خلال استعمال للموسيقى الغنائية استعمالا قويا ربما كان روسيليني هو من فتح له الطريق مع أخيه رنزو الموسيقار. يبدأ شريط « في حجرة فاندا » بفالس شوبان ماتت الشمس« . الأمر يتطلب جرأة. وكذلك كان الشأن بالنسبة إلى منترو عند اختياره ل« بلا تشاو ». ونجح في ذلك بالرغم من رومنسية المقطع الغارقة في السذاجة.
يتبادر أيضا إلى ذهني شريط « إيراسيما » لجورج بودانسكي Bodansky وأورلندو سين Senna أو « سجل اختفاء » لإيليا سليمان كما أستحضر « في اتجاه الجنوب » ليوهان فاندر كوكن Johan Vonder Keuken . استحضره بسبب مسافاته المتغيرة طوال سفره وبسبب طريقته في عرض الشخصيات قبل أي تحديد اجتماعي أو وطني، فلا نعرف في البداية المكان الذي أتت منه تلك المرأة الجميلة المسنة ذات بشرة يصعب تحديد لونها، ولا نكتشف جزء من اريتريا إلا ّفي الأثناء فقط ونحن نستمع إليها، فهي قبل كل شيئ ذلك الكائن الحي، ذلك الجسد وذلك الوجود، ثم ينشأ ذلك الشعور الملموس أننا معا 4هي ونحن في عالم واحد، في عالمنا هذا.
هناك أفلام من هذا القبيل تفتح فضاءات لللقاء والتواصل بين المشاهد والأشخاص المصوَّرين والسينمائي، أفلام تفترض فيها حريةُ كل شخص حريةَ الشخص الآخر وذلك دون اللجوء إلى التواطئ ولا إلى السيطرة أو الخطاب الفوقي، ويمكن أن يحصل ذلك في الوثائقي كما يمكن أن يحصل في الروائي. يحصل في الوثائقي عندما يبقى شئ ما من تلك الحركة التي تنقلنا نحو العالم كما قدّمه لنا فلايرتي في شريطه « نانوك الاسكيمو » وكما قدمه يوهان فاندر كوكن في شريط « فاس فاليو« ، فالعين التي تفتح المشهد الأول تذكر بالعين التي تختم شريط « ذهاب وإياب » لمونتيرو.
كما أستحضر كذلك أفلام بازوليني الوثائقية التي يقدم لنا فيها، في تمشّ معاكس للعرض السوسيولوجي، أطروحاته حول العالم، ثم يبيّن لنا كيف يناقضه هذا العالم ويصمد أمامه، فالأفارقة نقضوا أطروحاته عن القيمة الاستعارية ل« أورستي » في إفريقيا الستينات، كما صمدت أمامه الهند، أما اسرائيل فلا علاقة لها مع الأرض المقدسة كما كان يحلم بها. فكل فيلم يخلق بونا بين العالم والسينمائي مبيِّنا في نفس الوقت واقع العالم والحلم العنيد للسينمائي، وعلى المشاهد أن يعيد تركيب الأجزاء. من هنا يأتي الانزعاج الذي قد يُفسّر رفض المشاهدين العنيف لهذه الأفلام أثناء عرضها بمهرجان لوساس منذ ثلاث سنوات.
أستحضر هذه الأفلام التي أحبها وأستحضر مساحات الحرية التي تحملها وأتساءل عما يجمع بينها. كنت ابتهجت منذ سنوات لما نشأ جنس المحاولة في السينما وعلا شأنُه، نشأ في أغلب الأحيان على الهوامش الشعرية والميطافيزيقية للفيلم الوثائقي، ولكن العديد من هذه الأفلام ساهمت في تضخيم القيمة الكلاسيكية للمؤلف ورؤيته (أذكر مثلا فيلم لوجندر Legendre وما يفصل بينه وبين فيلم بولي). يبدو لي أن جنس المحاولة سُوّي على جعل استجابة للتحولات الأخيرة التي شهدتها أنماط الصناعة والإنتاج.
لكن كلمة المحاولة ليست الكلمة المناسبة لتوصيف هذا النوع من الأفلام. ربما تعلق الأمر بالتجربة بالمعنى الأنجليزي للكلمة، أي بمعنى القيام بتجربة شيئ ما، شيء نخترقه كفضاء نقطعه. أعود لبيتر بروك وتحديده لمفهوم « البحث » الذي يستعمله عوض لفظ « التجريب« ، اذ يقدم البحث على أنه عمل » لا يُحتسب فيه الوقت ولا نقوم به تحت الضغط لتسليم نتيجة طيبة في أجل محدد » أقول هذا وأنا أتخيل صراخ المدافعين عن الصناعة ولكن يبدو لي أن هذا التوصيف هو الذي يعبر عن حدود العمل أكثر من المقابلة المفترضة بين الوثائقي والروائي، ولا يتعلق الأمر فقط بآجال الفبركة ولكن بعدم انتظار النتيجة وتجنب تجميد الممارسة والتمكن من الخلق. ومن الغريب أن أفلام غريفيث Griffith القصيرة تثير في نفسي هذا الشعور بالحرية. فكل فيلم من هذه الأفلام يبدو قادما من منطقة غير متشكلة يبحث فيها عن شكل جديد على هامش اللامتشكل. كأنما هي أحلام بتكوين شركات تعاضد. إن قطع الأموال الذي سُـلِّط على نظام التأمين والبطالة الخاص بمهن الفرجة لن يسهل الأمور بالتأكيد.
أدعو إلى سينما في طور البناء بمعنى الورشة، من هنا تأتي رغبتي في التصوير أثناء مرحلة الكشف والبحث عن الأماكن، وهذا الأمر يصبح ممكنا بفضل آلات الكاميرا الصغيرة وقليلة التلكفة. هكذا صورتُ طوال أشهر في حي الجبل بالأسكندرية وشرحت موضوع البحث والورشة. فكلما سألني أحدُهم ماذا أفعل أجابه ساكن من الحي ليشرح له أنني لا أصنع فيلما ولكن أنجز بحثا، وكلما توصّلت إلى شيئ ما أدركوا ذلك جيدا. خلافا لمقولة بكاسو المخيفة حول فن العثور دون البحث (أنا لا أبحث بل أجد)، تلك المقولة المكررة آلاف المرات عن الإلهام الرباني للفنان. في الصيف المنقضي أدركنا معا أن المغامرة انتهت بالإسكندرية وفهم أهل الجبل أنني جمعت ما يكفي من الصّور لصناعة الفيلم، ولا احد أسِفَ لعدم قيامنا بما شهر بسميته الروبيراج أي عملية تصوير الفيلم بالرغم من أنني كنت أقدمها أحيانا (لهم ولي) كنهاية المغامرة.
إن فكرة الورشة هذه نجدها في الفنون الحيّة في المسرح أو الرقص، وليس من باب الصدفة أن تحتل مقولات بتر بروك هذه المكانة في ما أكتبه. السبب راجع إلى كيفية الأشتغال على ما أعبِّـر عنه بالمادة البشرية. فالتجربة جعلتني أكتشف أن العمل مع الممثل يتقاطع مع الطريقة التي أتقبل بها الحدث أو أثيره اعتمادا على بعض وسائل الوثائقي، ففي الحالتين لا يمكن عزل حركة قصيرة ومحددة كما لا يمكن أن تبين للشخص كيف يجب عليه إنجاز هذه الحركة. ففي المسرح، وكان بروك قد عبر عن ذلك على أحسن وجه، وجب البحث عن القدر من الحرية التي تمكن الممثل من الاستيلاء على شخصيته (أو صورته) لأن القضية تتعلق في نهاية الأمر بتمكينه من أداء العمل بدونك أي أن يصبح مستقلا طوال ساعتين كل ليلة. فإذا بينت له موقفا وطلبت منه أن يحاكيه قد ينجح في أدائه مدّة يوم، ولكن لا يمكنه أن ينجح في أدائه مدّة طويلة، من هنا جاءت ضرورة الإشتغال على الأوضاع والحالات المصوّرة فلزم البحث (التدريب الجسدي والإرتجال وتعديلات أخرى) لفتح مجالات يتمكن بفضلها جسدُ الممثل وروحُه من إيجاد الدفع المناسب. فتحتُ مثل هذه المجالات لمّا صورت في هذا الحي الشعبي بالاسكندرية الذي ذكرته سابقا، وكان علي أن أتحلى بالصبر في ملاحظة ما يدور حولي انطلاقا مما أشاهده حتى أتوصل إلى النقطة التي تجعل الشخص يتحمل تماما وبكل حرية فعله كاملا. ومرة أخرى كان منتيرو هو من أعطاني هذا الإحساس بأن اللقطة هي نتيجة تجربة تقدم للأفعال ما يلزمها من حرية.
لذلك السبب وجدت أن هناك نقاطا مشتركة بين الوثائقي والمسرح. ويمكننا أن نظيف أن السينما الوثائقية والمسرح يشتركان أيضا في عدم قدرتهما على مكافأة المشتغلين مكافأة مالية كافية وأنهما يرتكزان على اقتصاديات متواضعة جدا، ولكن لا يعني ذلك بالضرورة أن هناك علاقة آلية بين قلة الأموال ومحتوى الأفلام فمن يدعو إلى سينما فقيرة ينسى أن عددا كبيرا من الأفلام تُفنّـد هذه المقولة. إن المسرح والسينما الوثائقية يشتركان كذلك اليوم في إرادة الإلتزام إلتزاما كثيرا ما يكون سياسيا صريحا مع الإشارة إلى أن المسرح متقدم نسبيا عن السينما في هذا المجال. قد يرجع ذلك إلى بقايا الكورال اليوناني، فالفنون الحية ماانفكت تستعمل الأدوات الوثائقية، صورا كانت أم نصوصا ( لنأخذ مثلا استعمال نصوص هاتزفيلد حول رواندا أو اشتغال منوشكين على شهادات اللاجئين والمهاجريين السريين) فهناك نوع من الحوار بين الركح والأفلام الوثائقية.
أعتقد أن هذا الحوار بصدد دفع السينما في اتجاه المسرح والفنون الحية عموما، وأنه يمثل حركة مقاومة حيوية في وقتنا الراهن. لنأخذ كيارستامي وهو مرجعنا دوما. فبعد شريطه « أب ج أفريكا » حيث كانت المسافات التي عبرها باتجاه مواضيع الفيلم في غاية التنوع، اذ حصلت معجزة اللقاء بالآخر بسبب توقف الضوء الكهربائي مع منتصف الليل ما أغرق الشاشة في ظلام جعله يشاطر الناس ظروفهم بكل بساطة، أولائك الذين نشاهدهم منذ بداية الشريط، بعد « أب ج أفريكا » ها هو يتجه نحو مسرح « تياترو انديا » بمدينة روما لإخراج حادثة العاشوراء، تلك الحلقة المؤسسة في تاريخ الشيعة، يوم الصراع والموت البطولي للإمام الحسين. الجهاز بسيط. وسط ساحةٍ تشبه السيرك، ممثلون إيرانيون بصدد أداء مسرحية تبدو تقليدية تروي الواقعة. خلف المشاهدين يتم عرض صور بالابيض والأسود على ست شاشات كبيرة تمثل مشاهدين إرانيين يتابعون مسرحية من نفس النوع ونشاهد على ثلاث شاشات عن قرب وجوه نساء وعلى ثلاث شاشات أخرى نشاهد الرجال. أما العرض الذي نحن بصدد متابعته فهو نسخة مصغرة للنسخة التي يشاهدونه. يبدو انتباههم مشتتا وأحيانا بعيدا، لكن لما نصل إلى عقدة الحكاية يجهشون بالبكاء وبدون أي تحفظ، فينتابنا شعور غامض متغير، شعور بالرهبة أمام عدد مهول من البشر يبكون أمام مشهد الأسطورة المؤسسة لمفهوم الشهيد الذي انبنت عظمته على موته القادم والمتأكد والمعلن. من ناحية لا نملك إلا أن نعتبرهم في حالة من الاستيلاب ومن ناحية أخرى لا نملك إلا أن نعتبرهم محضوضين لأنهم قادرون على البكاء والتعبير على أحاسيسهم بهذه الطريقة، فنمر من شعور إلى شعور مختلف. المسافات متغيرة وعمل كيارستمي ينبع في نفس الوقت من داخل العقيدة ومن خارجها وبكل لطف وهدوء، والغريب في الأمر أن كيارستامي يؤكد، فليس هناك قطع، فترانا ملزمين على متابعة اللقطات القريبة للمشاهدين من بداية الفرجة إلى آخرها، وتتمثل قوة هذا التأكيد في أن كيارستامي يمتنع عن التعليق ولا يستعمل ذلك في إتجاه أو في آخر. يتلاشى الإنتباه ثم تنهمر الدموع، والمونطاج لا يقدم تفسيرا ولا حتى معنى دراميا لتسلسل الأحداث فهو يتزحلق. تزحلقوا تزحلقوا كما تقول جدّة جان بول سارتر. التأكيد والتزحلق في نفس الوقت، ذلك ما فعل بيدرو كوستا بلوحته في المقبرة فأبى أن يعطيها معنى أو أن يقدم أي تفسير لحالة فاندا. هناك شيئ من التأدب واللطف في فن التزحلق. التزحلق مع التأكيد هو ما يسمح للمشاهد في روما من ربط الأشخاص المصورين بالأشخاص الموجودين على الركح، هذا ضرب من الإعجاز أن تحقق هذا اللقاء بين جمهور أروبي في إيطاليا اليوم يرزخ تحت سطو الأحكام المسبقة العنصرية على خلفية 11 سبتمبر، نساء مسنات برجوازيات مغلفة بالجواهر مندهشات بهذا المسرح بحي صناعي، متأثرات ببكاء المشاهدين الإيرانيين وبرقّة تصوير البناء الشعائري للقبر وبهؤلاء الاطفال الملائكة.
يعود موضوع اللطف والرقة مهما كانت أشكالها أو حركاتها. ونعود إلى بيتر بروك من جديد كما نستحضر فرانجو أيضا الذي يعتبر اللطف هدفا من هدفَـيْه الإثنين. « أظن أن هدفي هو الواقع والرقة » يقول ذلك في حديث مصور يستعمله لابارت Labarthe في برنامجه. من المفيد أن نتذكر فرانجو. ولكن رونق العاشوراء هذه هو الأسد لأن هناك أسد يرتدي ببيجاما وقناع طفل، يتدخل أثناء حدث غريب يحصل بالهند ليطمئن الإمام حسين مؤكدا له أنه سيهديه قبرا بعد وفاة ذويه، يداعب الحيوانُ وجهَ الحسين فيفقد هذا الأخير قامته البطولية، وفي النهاية يختتم الأسد الفرجة بعد دفنه الموتى فيجمع أكسسوارات الفرجة. إن هذا الأسد صاحب اللباس التافه مؤثر جدا من حيث عنايته بالأشخاص والأشياء، وجه اللطف يرافقك عند خروجك من القاعة، وجه الأسطورة أو الحكاية يثير فيك تدفق أحاسيس الطفولة.
Camera con vista (Chambre avec vue) » par Emmanuelle Demoris, in Cinéma, (08 automne 2004) »
1من عوائق التصوير الاوترطيقي هو أن يكون المايكروفو ن أقرب من الكامرا لأن مسافة الصوت تختلف عن مسافة الصورة وإلغاء المسافات يؤدي بنا إلى ذلك المنطق المؤسف الذي يجعل الاشخاص الذين يتكلمون يتداولون بين لقطات قريبة ولقطات بعيدة حيث تتحرك الأجساد على خلفية أصوات محيطة
2أؤكد على كلمة حقيقتية لأن لا علاقة لهذا الأسلوب بما يمكن توصيفه بالواقعية في السينما
3لكي ندرك أهمية دور المراقبة الذي يقوم به المعلم لا بد من التأكيد على تعارضه مع أشكال حضور الممثل–المخرج الذي يتحرك في مجالات الفيلم الوثائقي مثل « طريق رقم » أو « ايراسيما« ، وهو حضور يفتح فضاءات من الحرية والحركة أمام الأحداث دون التحكم فيها ودون القاء دروس في الأخلاق
4في خصوص « فاس فاليو » أتساءل : ماذا يمكن أن يبقى من هذا الفيلم لو تم تصويره بكاميرا فيديو رقمية. ان الفيديو تمحو وتعقم وتقتل المتناقضات ف« فاس فاليو » يظهر خشونة العالم وتناقضاته بدون تعقيم ولا ترتيب. فأثناء العرض يمكننا بفعل الأضواء المعاكسة مشاهدة أثار الحياة المرسومة عل بشرة الانسان دون جمال مزيف و فضاءات واسعة تحمل الأجساد في خضم العالم المتقلب. ولكن أسوق هذا الكلام مع بعض الاحتراز. ف« في غرفة فاندا » تم تصويره بكاميرا فيديو رقمية ولم يتسبب ذلك في تعقيم الواقع. اذا من الممكن أن يحصل ذلك أيضا. فمسألة طبيعة الوسائط تبقى أساسية ولكن كما هو الشأن بالنسبة إلى غيرها من الأشياء ليس هناك قواعد ولا يجب التعميم . فالتفاءل يبقى قائما