« جعفر باناهي يغيب ويتألق ب « ثلاثة وجوه
لا بد من الإقرار بأن مستوى المسابقة الرسمية كان هذه السنة أرقى بكثير من السنة المنقضية
باستثناء « بنات الشمس » الذي كان فعلا رديئا، والنعت غير مبالغ فيه، فكل الأفلام التي عرضت إلى حد الآن تجاوزت المتوسط، وهذا لا يعني أن كل الأعمال ارتقت إلى درجة عالية جدا من الإمتياز
ولكن في صنف الإمتيازات لا شك أن « ثلاثة وجوه » لجعفر باناهي يحتل مكانة خاصة
كلنا يعلم أن جعفر باناهي يخضع للإقامة الجبرية بسبب مشاركته في مظاهرات ضد السلطة، ولكنه لم يتوقف عن العمل، فكان قدم ثلاثة أفلام منذ ذلك الحين وهي « هذا ليس فيلما » 2011 و« بردة » 2013 و« تاكسي» 2015
كذلك فعل هذه السنة، فهو حاضر في المسابقة الرسمية بشريط عنوانه « ثلاثة وجوه« ، عمل ذو قيمة عالية جدا، رقيق وطريف وذكي
بظهر المخرج على مقود السيارة إلى جانب بهناز جعفري، ممثلة شعبية شهرت بأدوارها في المسلسلات، تطلب منه مرافقتها إلى قرية أذيرية تركية في شمال غرب ايران لمعرفة حقيقة انتحار فتاة شابة بعثت لها بشريط فيديو صورت فيه انتحارها. تقول الفتاة إنها اتخذت هذا القرار بعد محاولاتها المتكررة للاتصال ببهناز جعفري طالبة منها التدخل لدى عائلتها للسماح لها بدراسة التمثيل
حوار طويل يدور بين المخرج باناهي و الممثلة جعفري حول صحة او عدم صحة الفيديو
توقفت جعفري فجأة على القيام بدورها حين وصلها الفيديو فتسببت في تعطيل تصوير مسلسل تلفزي
ثم ينطلقان في رحلة بحث تذكرنا بشريط كياروستامي « وتتواصل الحياة » (تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى كثرة أصداء أفلام كيارستامي في الشريط ) فيتوقفان مرات عديدة سائلين المارة عن السبيل، محطات هامة في تطور الأحداث. يبلغان غايتهما ويكتشفان الحقيقة، وهي أن الفتاة لم تنتحر وكانت قد افتعلت ذلك للتأثير على جعفري. تثير ثائرة هذه الإخيرة وتقرر الرجوع وترك الفتاة على حالها، ولكن سرعان ما تتراجع في قرارها وتعود أدراجها
وهنا تنطلق حكاية الممثلة والمخرج مع متساكني المنطقة وعائلة الفتاة، كلها نقاشات وجدال لا يخلو من خلفيات وسوء تفاهم تبرز من خلالها عديد القضايا الإجتماعية والثقافية
يحتوي الفيلم على طبقات متشابكة من المعاني : موضوع الأقليات وما يطرحه من قضايا ثقافية ولغوية (الآذيريون الأتراك في قضية الحال) وعلاقة الريف بالمدينة وموضوع المرأة وما تتعرض له من عراقيل في الأوساط المحافظة ومسالة الصورة السينمائية، كل ذلك بطريقة بسيطة، لا تمنع بساطتها ثراء الفيلم، بل تضفي عليه مزيدا من المصداقية
فلا تقتصر الرحلة على الاكتشاف السوسيولوجي أو الأنتروبولوجي للمنطقة ولكنها (أي الرحلة) تمثل صيرورة الفيلم ذاته، فعبور الفضاء الترابي هو في الوقت نفسه عبور واستكشاف لفضاء الصورة وتمثلاتها، فمع تقدم الشخصيات من مكان إلى مكان نتقدم في مساءلة عملية التصوير والبحث السينمائي عن الحقيقة. فالسيارة ليست وسيلة نقل فقط، إنها الكاميرا في ذاتها، كما هو الشأن بالنسبة لأفلام كيارستامي، والأهم من ذلك هو أن البحث عن الممثلة الشابة والتأكد من موتها أو من عدمه يصبح فيلما بصدد الإنجاز غير مخطط له بل يفرضه واقع قليل الإحتمال
فتصوير المسلسل سابق للشريط، بدأ قبل بداية الفيلم، وتوقف بسبب غياب الممثلة بهناز جعفري التي قررت فجأة البحث عن الفتاة. لم يكن جعفر باناهي إلا مرافقا لها، ولما يتصل المنتجون به عن طريق الهاتف يدور الحديث عن شريط آخر وعندما يتصل هو بوالدته يؤكد لها أنه ليس بصدد صناعة فيلم
هذا أهم شيء في الشريط، الإدعاء بأنه ليس فلما وهو تماما عنوان شريط سابق لباناهي
فلم يكن السؤال لا سابقا ولا لاحقا ولكنه ملتصق بعملية التصوير، يُطرح أثناءها، فالجواب يكمن في السؤال نفسه
تنقلب ظاهريا العلاقة بين المخرج وممثلته، فهي التي تقوده بينما الواقع (أي واقع انجاز شريط « ثلاثة وجوه« ) عكس ذلك تماما.وما يزيد في طرافة الموضوع هو أن كل من الشخصيتين يقوم بدوره، فالمخرج جعفر باناهي يقوم بدور جعفر باناهي المخرج والممثلة بهناز جعفري تقوم بدور الممثلة بهناز جعفري الممثلة
زد على ذلك أنه كلما تقدمت بنا الرحلة رجعنا إلى الوراء بحثا في الماضي، الماضي القريب للممثلة الناشئة والماضي البعيد، ماضي الممثلة شهرزاد التي ذاع صيتها قبل الثورة الايرانية، فتصبح الرحلة قراءة تاريخية من خلال ثلاثة أجيال من النساء
كل ذلك على الطريقة الايرانية الجيدة : يختلط فيها الواقع بالخيال والمادة بالمعنى والمعنى بالمغنى في سنفونية جديدة لجعفر باناهي
ماانفكت مهمة أعضاء لجنة التحكيم تتعقد